(كتب المكتبة الإسلامية)هذه المكتبة التي أصابتها المصائب وحاقت بها النكبات العامة الشاملة والخاصة المفردة؛ كنكبتها بالمغول لما انحدر علينا سيلهم المدمر من أقصى الشرق، فجرف في طريقه مظاهر العمران وثمار الفكر حتى وصل إلى هذه المكتبة، فألقوا – من جهلهم – كتبها في دجلة يمرون عليها يتخذونها جسراً! حتى نقلوا أن ماء دجلة حيال الضفتين قد اسود مسافات مما ذاب فيه من المداد والحبر، بل من حصاد الأدمغة ونتاج العقول.
ولما دخل الإسبان الأندلس أحرقوا مكتباتها، حتى صار ليلها نهاراً مما صعد منها من اللهب. وحسبكم أن تعلموا أن واحدة من مكتبات قرطبة كانت فهارس دواوين الشعر فيها – كما يقول ابن خلدون – أربعة وأربعين دفتراً كبيراً. فهارس دواوين الشعر فقط! أحرقها الإسبان فأضاءت ليالي الأندلس...
هذا عدا ما أصابها من النكبات الفردية، من التحريق والتخريق والتمزيق والتغريق، حتى لم يبق من هذه المكتبة إلا الأقل، وهذا الأقل لا تزال المطابع في الشرق والغرب تطبع منه من مئتي سنة إلى الآن، ولم تطبع إلا بعض هذا القليل الذي بقي.
لقد اطلع عالم تركي على طرف من هذا التراث، هو حاجي خليفة صاحب (كشف الظنون)، فوصف في كتابه العظيم ما اطلع عليه فكان نحو عشرين ألف كتاب، وألفت ذيول لكشف الظنون تزيد عليه أضعافاً، وكلها مطبوع معروف تتداوله أيدي الناس.
وعالم تركي آخر هو طاش كبري زاده، صاحب (مفتاح السعادة)، وصف جانباً آخر اطلع عليه فكان في ثلاثمائة وستة عشر علماً (أو بحثاً إذا شئتم التدقيق والتحقيق).
وذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن مكتبة الخليفة العبيدي- الذي يسميه الناس الفاطمي- لما استولى عليها صلاح الدين الأيوبي كانت كتبها تقرب من المليون.
إن من هذه الكتب ما لا يستطيع الواحد منا أن يقرأه قراءة، فكيف إذا حاول أن ينسخه نسخاً؟ فكيف وكثير منها أملاه مؤلفوه إملاء لأنهم كانوا من مكفوفي البصر؟ كـ(المخصص) لابن سيده، أوسع كتاب في اللغة، أملاه إملاء، .. و(المبسوط) أوسع كتاب في الفقه، أملاه مؤلفه وهو محبوس في الجب تحت الأرض لكلمة حق قالها عند حاكم ظالم، فكان تلاميذه يقفون في الطريق يستملون ويكتبون، وهو يملي عليهم من بطن الجبِّ، ما عنده كتاب ينظر فيه، ولا مرجع يرجع إليه، وقد بين ذلك في كتاب العبادات في آخر باب الإقرار.
والطبري كان يريد أن يجعل تاريخه في ثلاثين ألف ورقة، فسأل تلاميذه فاستكثروه، فجعله في ثلاثة آلاف وقال: وا أسفاه، لقد كلَّت الهمم عن طلب العلم!
وقاضي مصر بكار بن قتيبة، لما سجنه ابن طولون وطال سجنه سأله طلاب الحديث أن يأذن لهم بالسماع منه، فكان يحدثهم وهو في السجن يأخذون عنه من راء الباب.
وابن تيمية كتب كثيراً من رسائله وهو في السجن، وابن سينا ألف رسالته عن القولنج (ونحن لا نزال إلى الآن نستعمل في الشام كلمة القولنج) ورسالة حي بن يقظان (التي قلدها ابن طفيل الأندلسي، فاشتهرت قصته وماتت قصة ابن سينا) كتبها وهو سجين، وقصة (حي ابن يقظان) هي التي نسج على منوالها ومشى على أثرها مؤلف رواية روبنسون كروزو المشهورة، بل إن الكتاب العظيم لابن سينا، وهو (الشفاء) الذي بقي الأساس في دراسة الكتب في جامعات أوروبا إلى ما قبل أربعمائة سنة، ألَّفه وهو هارب متنقل في البلدان متوارٍ عن الأبصار.
بل لقد أخرجت هذه العصور المتأخرة كتباً كبيرة، كشرح القاموس للزَّبيدي (الهندي الأصل اليماني المقام). بل لقد ألفت في عصرنا هذا كتاب كبار، ككتاب (الأعلام) للزركلي، ومجموعة (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام) لأحمد أمين، و(تاريخ العرب قبل الإسلام) لجواد علي العراقي الذي توفي حديثاً، و(شرح الكامل) للمرصفي،ولقد حدث أحد تلاميذه أنه دخل عليه يوماً - وكان يسكن غرفة مقفرة من دار خربة في حي قديم من أحياء القاهرة، يضل الماشي في أزقته ويغوص في وحله، لأنه كان من فقره لا يستطيع أن يجد غير هذه الدار في غير هذا الحي- فوجده قاعداً على حصير بالٍ مفروش في وسط الغرفة، ليس فيها سواه، وأمامه كتب منثورة والصحائف منشورة، وحول الحصير خيط من الدبس مصبوب على الأرض، فسأله: ما هذا الدبس يا مولانا؟ فضحك الشيخ وقال: إنه سور يحميني من هجمات البق!... في هذه الغرفة العارية، على هذه القطعة من الحصير، ألَّف الشيخ كتابه العظيم (شرح الكامل للمبرد)، هذا الكتاب من الكتب التي يفاخر بها عصرنا العصور الخوالي، لهذا العالم الذي ينافس بأمثاله القرون الماضيات.
ولا تزال في المكتبات العامة والخاصة عشرات، بل مئات، من المخطوطات؛ في دار الكتب المصرية، وفي المكتبة الظاهرية في الشام، وفي مكتبات إسطنبول وبغداد، وفي مكتبة باريس، وفي مكتبة المتحف البريطاني، وفي الإسكوريال في إسبانيا، وفي مكتبة عارف حكمت في المدينة، وفي مكتبات فاس وغيرها في المغرب، هذه التي سلمت من أيدي المتعصبين من أعضاء محكمة التفتيش، ولو بقي كل ما كان في الأندلس لوجدنا شيئاً عظيماً، وفي ليدن في هولندا، وفي مكتبة بوسطن في أمريكا... في هذه المكتبات التي رأيت بعضاً منها واطلعت على فهارس بعض، وسمعت الأخبار عن بعض، لا تزال فيها الآن آلاف مؤلفة من هذه المخطوطات.
وفي المكتبات الخاصة آلاف أخرى. أذكر لكم من هذه المكتبات ما عرفته أو سمعت به.
من أكبرها مكتبة أحمد تيمور باشا الذي تعقب كتب التاريخ خاصة، فكان يشتري الكتاب منها بوزنه ذهباً إن لم يستطع شراءه بأقل من ذلك، ومكتبة أحمد زكي باشا (وكلا المكتبتين في دار الكتب المصرية الآن والحمد لله)، ومكتبة عبد الحي الكتاني في المغرب، وهي من أغنى الكتب في التاريخ، ومكتبة أنستاس الكرملي، وفيها كثير من المفردات ليس لها ثوان، ومكتبة صديقنا إسعاف النشاشيبي رحمة الله عليه وعلى كل من ذكرت، هذه المكتبة – على كبرها واتساعها – لا يكاد يوجد فيها كتاب واحد يخلو من فهارس ومن تعليقات، رأيت كثيراً منها، ومكتبة الشيخ خليل الخالدي، وقد زرتها لما كنت ذاهباً إلى مصر للدراسة سنة 1928، ومكتبة شيخنا المفتي الشيخ أبي اليسر عابدين...
وفي هذه المكتبات نوادر لا تزال راقدة تنتظر من يوفقه الله لإخراجها ببعثها من مرقدها؛ من ذلك أن رجلاً من أسرة معروفة في الشام كان يشتغل أسلافها بالعلم توفي من أكثر من خمسين سنة، فباعوا كتبه المخطوطة، ثم نبههم أحد الخبراء إلى أن فيها كتاباً نادراً، فأحبوا أن يسترجعوه ممن اشتراه، وأبى عليهم استرجاعه، وأقيمت بشأنه قضايا في المحاكم لا أريد التعرض لها، ولكني أريد أن أقول: إن هذا الكتاب هو (كتاب البيزرة) أو (البزدرة) وهو علم طب البزاة، وأنتم تعرفون البازي والصقر والشاهين، هذه الطيور التي كانوا يصطادون بها (ولا يزالون يتخذونها للصيد في بعض نواحي الجزيرة العربية). ولقد كتبت عن هذا الكتاب في السنة الثانية أو الثالثة من مجلة الرسالة، فاقرؤوا ما جاء فيه تجدوا عجائب لا تكاد تصدق؛ من ذلك أن فيه باباً عنوانه (باب معرفة مرض الطائر من فحص مائه). أي أنهم – من فحص بول الطائر – يعرفون مرضه! لم يكتفوا بأن عنوا بعلم الحيوان عامة ألَّفوا فيه الكتب، حتى ألفوا في هذه الناحية الخاصة من طب الحيوان.
ولم يكن هذا إلا بعد أن أوفوا على الغاية من العناية بالطب الإنساني، وأنا لست من أهل الاختصاص في الطب، ولكني وقفت خلال مطالعاتي على نصوص عجيبة؛ منها أنني وجدت مرة في (وفيات الأعيان) لابن خلكان أن الحجاج مرض مرضاً لم يستطيعوا أن يعرفوا حقيقته ولا سببه، فجاؤوا بإسفنجة صغيرة ربطوها بخيط وجعلوه يبتلعها، ثم استخرجوها ففحصوا عصارته المعدية، على مقدار ما كانوا يعرفون يومئذ من أمثال هذه البحوث.
وقرأت في (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني أنها أجريت للسيدة سكينة بنت الحسين، إحدى عقيلتي قريش وأجمل نسائها، وهي التي جمع مصعب بن الزبير بينها وبين العقيلة الأخرى عائشة بنت طلحة، كانت لها في عينها نقطة (أو شيء لا أعرف حقيقته)، فأجريت لها عملية في العين واستخرجوا هذه النقطة من وراء الجسم الزجاجي. وقد قرأت وصف هذه العملية للجاحظ ولكني نسيت في أي كتاب قرأتها.
وإذا نظرتم في تاريخ المستشفيات في الإسلام تعرفون مبلغ ما وصلوا إليه في هذا الباب، اقرؤوا (تاريخ المستشفيات) للدكتور عيسى المصري، والكتاب الآخر الذي ألفه أستاذ من الكلية الأميركية في بيروت نسيت اسمه الآن عن المستشفى النوري الذي أنشأه في دمشق نور الدين زنكي، وبقي بناؤه إلى الآن ولكنه صار مدرسة التجارة، تجدوا أن أطباء هذا المستشفى عرفوا طريقة عزل المرضى المعدين، وعرفوا أسلوب التخصص في الطب.
والبيروني، المفكر العظيم الذي يقول عنه سخاو (وهو أحد المستشرقين الألمان) بأنه أكبر عقلية كانت في القرون الوسطى، يذكر في كتابه (الصيدنة) (أي الصيدلة) أنهم لم يكتفوا بدراسة الطب عامة بل كانوا يعرفون التخصص فيه.
لكي تروا جانباً من جوانب عظمة المكتبة الإسلامية اقرؤوا كتاب (ثقافة الهند) الذي طبعه المجمع العلمي في دمشق لمؤرخ الهند العالم الجليل والد أبي الحسن الندوي، وهو في خمسمائة صفحة من القطع الكبير بالحرف الصغير، كله أسماء للكتب التي ألفت في الهند.
- الكاتب:
فصول في الثقافة والأدب للشيخ علي الطنطاوي - التصنيف:
أقليات وقضايا