الدين قوة هائلة في قيادة البشر، ولكن ما قيمة الآلة البخارية في قطار يضم سبعين عربة، إذا كانت هذه العربات كلها قد احترقت وتلاشت؟؟
•ماذا تقود بعدئذ؟؟ وماذا يصنع الدين إذا كان موضوع عمله ـ وهو الإنسان ـ قد ذاب واستخفى.
•إنى أنظر إلى الناس حولي فأجد الدين يأوي في أنفسهم إلى خرائب بشرية لا إلى خلائق سوية.!
وأبحث عن الإنسان الذي ينزل اليقين في قلبه، ويتجه الخطاب الإلهي إلى عقله، فأجد هذا الإنسان قد برحت علل جسيمة به وتركته حطاما!!
•ومصادر هذا الشر الجائح كثيرة، ولكن التدين الفاسد أبرزها وأعمها،لأنه يحاول باسم الله الحيلولة بين الإنسان وفطرته، ويصادر باسم الإخلاص والتقوى خصائص طبيعته.
•وللطبيعة البشرية أركان عامة يشترك بنو آدم قاطبة في أصولها. وهناك ميزات يختص بها فرد دون فرد... والإسلام يحترم هذه وتلك على سواء... ويضع لها من شرائع الحق ما ينتهي بها إلى الكمال المنشود...
•من حق الإنسان أن يتألم إذا نزلت به مصيبة، ومن حقه أن يفرح إذا جاءته نعمة، فتلك طبيعته في الحالين من غير نكير.. وعمل الدين أن يكفكف الحزن فلا يتحول قنوطا أو سخطا.وأن يكفكف الفرح فلا يصير عربدة وبطرا..
•ولذلك استغربت ما روى عن أحد الصوفية إذ سأل صاحبا له عن حاله فأجابه:نصبر على البلاء، ونشكر على العطاء!
•إنه احتقر هذه الإجابة وقال: تلك حال الكلاب عندنا، أما نحن فنفرح بالبلاء فرح أحدكم بالعطاء!
•وعندى أن هذا تزوير على الطبيعة، وكذب على الفطرة.
فإن رسول الله ـ وهو خير الناس ـ حزن لموت إبراهيم، ويعقوب عليه السلام حزن لضياع ولده يوسف..
•فبأي منطق يطالب الناس ـ لكي يرتفع تدينهم ـ أن يفرحوا بالبلايا؟؟
•إن الضغط على الطبيعة البشرية خيل لبعض الناس أن محبة الجمال في آيات الكون نزعة تخالف التقوى..!
وليت شعرى:لمن ترسم صور الإبداع في قوله جل اسمه: [أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناه وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج] لمن يبرز الوحي الأعلى هذا المنظر الجميل؟ إنه يقول: [تبصرة وذكرى لكل عبد منيب]
•ثم يستطرد في وصف هذا الجمال الرائق: [ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج] .
•ثم إن الناس ليسوا صورا متشابهة يضعها الدين في قالب واحد، فتخرج من مصنعه، وقد محيت الفروق الذهنية والعاطفية من بينها؟
•إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على درجة رفيعة من التقوى، ومع ذلك ففي القضية الواحدة يلين بعضهم في ذات الله، ويشتد بعضهم في ذات الله فتختلف أحكامهم باختلاف الطبائع والأنظار؛ وإن لم تختلف نياتهم في مرضاة الله وطلب الحق...
• والجو الذي يتيح النماء الحر لأصحاب المواهب المختلفة، هو الجو الذي تنبت فيه العبقريات، وتتفتح فيه القوى الكبيرة، وتستطيع الأمم أن تستفيد فيه من أبنائها العظماء...
•لقد أحزنني أن أرى نفرا من المتدينين يحسنون أركانا ونوافل من العبادات الظاهرة، ويحصون تفاصيل كثيرة لأنواع من السلوك المشروع وغير المشروع، ولكن قواهم النفسية والفكرية أشبه بمناجم الذهب والحديد التي تاه عنها البشر، فهي مطمورة تحت ركام من الغفلة والخفاء..
•نعم، قواهم النفسية والعقلية هامدة راكدة مقطوعة الصلة بالكون والحياة.
...
•وأحزنني، أو أفزعني، أن أرى أناسا آخرين نمت في نفوسهم الأهواء كما تنمو الأشواك في حقل لا صاحب له، ثم هم بجهد قليل، من الهمهمة، والشعوذة يفرضون أنفسهم على الدين، ويزعمون أنهم سينفعون به العالمين!
•إن الدين إذا لم يسر في النفوس كما تسري الكهرباء في الأسلاك، فتضئ بسريانها مصابيح، وتتحرك آلات، يصبح وهما أو زعما لا تغني فيهما العناوين والشارات.
- الكاتب:
من كتاب : الإسلام والطاقات المعطلة للشيخ \"محمد الغزالي\" - التصنيف:
تاريخ و حضارة