تكلمنا في مقال سابق عن حكمة عظيمة من حكم الابتلاء بالوقوع في الذنوب والمعاصي وهي إصلاح العلاقة بين العبد وربه، وفي هذا المقال نتكلم عن بقية الحكم الأخرى وهي:
أولا: إصلاح علاقة العبد بنفسه.
ويظهر هذا جليا في النقاط التالية:
أ- تعريف العبد حقيقة نفسه:
ومن حكمة الابتلاء بالذنب أن العبد يعرف حقيقة نفسه، وأنها الظالمة، وأن ما صدر عنها من الشر صدر من أهله، إذا الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير وعلم وهدى وإنابة وتقوى من الله- عزوجل- هو الذي زكاها، وإذا لم يشأ تزكية العبد تركه مع دواعي ظلمه وجهله، لأن الله- عز وجل- هو الذي يزكي من يشاء من النفوس فتزكو وتأتي بأنواع الخير والبر، وقد كان من دعائه صلّى الله عليه وسلّم: "اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها". (مسلم)، فإذا ابتلى الله العبد بالذنب عرف نفسه ونقصها فيجتهد من ثم في كمالها.
ب- خلع رداء الكبر والعظمة:
ومن الحكمة في الابتلاء بالمعاصي أن يخلع العبد صولة الطاعة من قلبه وينزع عنه رداء الكبر والعظمة الذي لبس له، ويلبس رداء الذل والانكسار، إذ لو دامت تلك الصولة والعزة في قلبه لخيف عليه ما هو من أعظم الآفات وأشدها فتكا، ألا وهو العجب.
ج- زوال الحصر والضيق:
ومن الحكمة في ذلك، أنّ العبد يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، ويزول عنه ذلك الحصر والضيق، والانحراف، ويستريح العصاة من دعائه عليهم وقنوطه منهم وسؤال المولى- عز وجل- أن يخسف بهم الأرض ويرسل عليهم البلاء ؛ فإنه حينئذ يرى نفسه واحدا منهم، فهو يسأل الله لهم ما يسأله لنفسه، وإذا دعا لنفسه بالتوبة والمغفرة والعفو أدخلهم معه، فيرجو لهم فوق ما يرجو لنفسه، ويخاف على نفسه أكثر مما يخاف عليهم، ولا ينظر إليهم بعين الاحتقار.
د- تحقق صفة الإنسانية في العبد:
لقد اقتضت الحكمة الإلهية تركيب الشهوة والغضب في الإنسان، وهاتان القوتان هما بمنزلة صفاته الذاتية وبهما وقعت المحنة والابتلاء، وهاتان القوتان لا يدعان العبد حتى ينزلانه منازل الأبرار أو يضعانه تحت أقدام الأشرار، وهكذا فإن كل واحد من القوتين يقتضي أثره من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يكن الإنسان إنسانا بل كان ملكا، ومن هنا قال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: "كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون".(الترمذي وأحمد).
هـ- الندم والبكاء:
إذا ابتلي الإنسان بالذنب جعله نصب عينيه، ونسي طاعته وجعل همه كله بذنبه، ويكون هذا عين الرحمة في حقه، قال بعض السلف في هذا المعنى: "إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار" قالوا: وكيف ذلك؟ قال: "يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينه، كلما ذكرها بكى وندم وتاب واستغفر وتضرع وأناب إلى الله- عز وجل- وذل له وانكسر، وعمل لها أعمالا فتكون سبب الرحمة في حقه، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يمن بها ويراها ويعتد بها على ربه- عز وجل- وعلى الخلق، ويتكبر بها، ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه ويكرمونه ويجلونه عليها، فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها فتدخله النار، وعلامة السعادة أن تكون حسنات العبد خلف ظهره وسيئاته نصب عينيه، وعلامة الشقاوة أن يجعل حسناته نصب عينيه وسيئاته خلف ظهره".
الحكمة الثالثة: إصلاح علاقة العبد بالآخرين:
ويبدو ذلك جليا في الآتي:
أ- تعلم العبد المسامحة وحسن المعاملة والرضا عن الغير:
ومنها أن العبد إذا ابتلي بالمحنة أو بالذنب فإنه يدعو الله أن يقيل عثرته ويغفر زلته فيعامل بني جنسه في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أن يعامله الله به، لأن الجزاء من جنس العمل فمن عفا عفا الله عنه، ومن سامح أخاه في إساءته إليه سامحه الله، ومن عفا وتجاوز تجاوز الله عنه، ويلحق بذلك أن العبد إذا عرف هذا فأحسن إلى من أساء إليه ولم يقابل إساءته بإساءة تعرض بذلك لمثلها من رب العزة والجلال، وأن الله- عز وجل- يقابل إساءته بإحسان منه وفضل؛ إذ المولى- عز وجل- أوسع فضلا وأجزل عطاء.
ب- التواضع مع الخلق والعفو عن زلاتهم:
مشاهدة العبد ذنوبه وخطاياه توجب ألا يرى لنفسه على أحد فضلا ولا يقع في اعتقاده أنه خير من أحد، وأين هذا ممن لا يزال عاتبا على الخلق شاكيا ترك قيامهم بحقه ساخطا عليهم وهم عليه أسخط، ويستتبع هذا أن يمسك عن عيوب الناس والفكر فيها لأنه مشغول بعيب نفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس. وإذا شهد العبد نفسه سيئا مع ربه مع فرط إحسانه إليه، فإن هذا يقتضي منه أن يغفر للمسيئين إليه من حوله ويعفو عنهم ويسامحهم.
هذه الثمرات ونحوها متى اجتناها العبد من الذنب فهي علامة كون الابتلاء رحمة في حقه، ومن اجتنى منه أضدادها وأوجبت له خلاف ذلك، فهي علامة الشقاوة، وأنه من هوانه على الله وسقوطه من عينه خلى بينه وبين معاصيه ليقيم عليه حجة عدله، فيعاقبه باستحقاقه، وتتداعى السيئات في حقه فيتولد من الذنب ما شاء الله من المهالك والمتالف التي يهوي بها فى دركات الجحيم، والمعصية كل المعصية أن يتولد من الذنب ذنب ثم يتولد من الاثنين ثالث ثم تقوى الثلاثة فيتولد منها رابع وهلم جرا، ذلك أن الحسنات والسيئات آخذ بعضها برقاب بعض ويتلو بعضها بعضا، قال بعض السلف: "إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقاب السيئة السيئة بعدها".
وقد علمنا المولى سبحانه وتعالى ألا نيأس من رحمة الله مهما كانت معاصينا، وأيا كان إسرافنا على أنفسنا فقال: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر/ 53) ، وحذرنا من التمادي في المعصية وتأخير التوبة وقرن بين غفرانه لمن تاب وعقابه لمن أعرض فقال: {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ}(الحجر/ 49- 50) .
نسأل الله تعالى أن يعفو عنا ويغفر لنا ويرحمنا ويتوب علينا.