في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة النبوية، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قريش ليبين لهم أنه وأصحابه يقصدون مكة لأداء العمرة وليس للقتال، فذهب عثمان رضي الله عنه إلى قريش ليبلغهم بذلك وتأخر في العودة، فظن المسلمون أن قريشاً قتلته، فبايع الصحابة رضوان الله عليهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الموت وعلى ألا يفروا في قتال قريش. قال ابن حجر في "فتح الباري": "النبي صلى الله عليه وسلم بعث عثمان ليُعْلِم قريشاً أنه إنما جاء معتمراً لا محارباً، ففي غيبة عثمان شاع عندهم أن المشركين تعرضوا لحرب المسلمين، فاستعد المسلمون للقتال وبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ تحت الشجرة على أن لا يفروا وذلك في غيبة عثمان، وقيل: بل جاء الخبر بأن عثمان قُتِل فكان ذلك سبب البيعة".
وقد سُمِّيَت هذه البيعة في كتب السيرة النبوية ببيعة الشجرة، لأنها وقعت تحت شجرة عند الحديبية، وسميت ببيعة الرضوان، لأن الله تعالى صرح في كتابه الكريم أنه رضي عن هؤلاء الذين قاموا بها، فقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}(الفتح:18). قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وقد تقدم ذكر عدتهم، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية.. وقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ}: وهي الطمأنينة، {عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}: وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة". وقال الطبري: "لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفروا، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة، وكانت بيعتهم إياه هناك فيما ذكر تحت الشجرة".
المبايعة على عدم الفرار والموت في سبيل الله:
عن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: (على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية (بيعة الرضوان)؟ قال: على الموت) رواه البخاري، وفي رواية لمسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (لم نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت إنما بايعناه على أن لا نفر)، وقد ذكر ابن حجر في كتابه "فتح الباري" أنه لا تعارض بين المبايعة على الموت وعلى أن لا يفروا، حيث قال: "وقد أخبر سلمة بن الأكوع ـ وهو ممن بايع تحت الشجرة ـ أنه بايع على الموت، فدل ذلك على أنه لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار، لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولا بد". وكان عدد الصحابة الذين حضروا هذه البيعة ألف وأربع مائة، أو ألف وخمس مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا يوم الحديبية: (أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفاً وأربعمائة) رواه البخاري. وجاء عن سعيد بن المسيب: (أنهم ألف وخمس مائة)، قال ابن حجر: "والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألف وخمسمائة جبَر الكسر، ومن قال ألف وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قول البراء في رواية عنه: "كنا ألفاً وأربعمائة أو أكثر".
لا يَدْخُلُ النارَ أحدٌ ممَن حضر بيعة الرضوان:
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَدْخُلُ النارَ أحدٌ ممَن بايع تحت الشجرة (بيعة الرضوان)) رواه أبو داود وصححه الألباني. وعن أُمِّ مُبَشِّرٍ رضي الله عنها: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها: (لا يدخل النارَ إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها، قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}(مريم:71)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}(مريم:72)) رواه مسلم.
قال النووي: "قال العلماء معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً.. وإنما قال إن شاء الله للتبرك لا للشك، وأما قول حفصة: بلى، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقالت: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقد قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} فيه دليل للمناظرة والاعتراض والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة، لا أنها أرادت ردَّ مقالته صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط، وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون".
وقال الطيبي: "الصواب أنها (حفصة) استشكلت معنى الحديث، حيث ظاهره على ظنها غير موافق للآية".
وقال القرطبي في "المُفْهِم لما أُشْكِل من تلخيص كتاب مسلم": "واستثناؤه صلى الله عليه وسلم هنا بقوله: (إن شاء الله) استثناء في واجب قد أعلمه الله تعالى بحصوله بقوله: {لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ} وبغير ذلك، وصار هذا الاستثناء كقوله تعالى: {لَتَدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}، وقول حفصة: (بلى) قول أخرجه منها الشهامة النفسية والقوة العمرية، فإنَّها كانت بنت أبيها.. وتمسكها بعموم قوله تعالى: {وَإِن مِنكُم إِلا وَارِدُهَا} دليلٌ على أن منكم للعموم عندهم وأن ذلك معروف من لغتهم، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها تأديب لها وزجر عن بادرة المعارضة وترك الحرمة، ولما حصل الإنكار صرحت بالاعتذار فذكرت الآية، وحاصل ما فهمت منها أن الورود فيها بمعنى الدخول، وأنها قابلت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة) بعموم قوله تعالى {وَإِن مِنكُم إِلا وَارِدُهَا}، وكأنها رجَّحت عموم القرآن فتمسكت به، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأن آخر الآية يبيِّن المقصود، فقرأ قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}، وحاصل الجواب تسليم أن الورود دخول، لكنه دخول عبور، فينجو من اتقى، ويترك فيها من ظلم.. وفي حديث حفصة هذا أبواب من الفقه، منها: جواز مراجعة العالم على جهة المباحثة، والتمسك بالعمومات فيما ليس طريقه العمل بل الاعتقاد ومقابلة عموم بعموم، والجواب بذكر المخصَّص، وتأديب الطالب عند مجاوزة حدِّ الأدب في المباحثة".
لقد كانت بيعة الرضوان بيعة مباركة، تدل على صِدْق الصحابة وعلو منزلتهم عند الله عز وجل، وقد مدح الله تعالى أهلها وأثنى عليهم فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}(الفتح:18). وقد أجمع المسلمون من أهل السنة والجماعة على أن جميع من شاركوا في هذه البيعة هم من أهل الجنة، لأن من يرضى الله تعالى عنه فقد ضمن له الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (لا يَدْخُلُ النارَ أحدٌ ممَن بايع تحت الشجرة (بيعة الرضوان)).
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من بدر إلى الحديبية