في العام الثاني عشر من البعثة النبوية جاءت وفود من قبيلتي الأوس والخزرج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة سُميت ببيعة العقبة الأولى، وأرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، وكان نزول مصعب رضي الله عنه بالمدينة على أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وكان مصعب رضي الله عنه يُسَمَّى بالمدينة المنورة: المقرئ، كما ذكر ذلك ابن هشام في السيرة النبوية، وابن كثير في البداية والنهاية، والبيهقي في دلائل النبوة.
قال ابن الأثير في كتابه "أُسد الغابة في معرفة الصحابة": "كان مصعب بن عمير من فضلاء الصحابة وخيارهم، ومن السابقين إلى الإسلام، أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، وكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً فبَصُر به عثمان بن طلحة يصلي، فأعلم أهله وأمه فأخذوه فحبسوه، فلم يزل محبوساً إلى أن هاجر إلى أرض الحبشة وعاد منها إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة بعد العقبة الأولى، ليُعَلم الناس القرآن ويصلي بهم". فمصعب بن عمير رضي الله عنه هو أول سفير في الإسلام.
نجاح مصعب رضي الله عنه في مهمته:
كان مصعب رضي الله عنه يأتي الأنصار في دورهم ويدعوهم إلى الإسلام، فيُسْلِم الرجل والرجلان، وقد نجح مصعب رضي الله عنه نجاحاً كبيراً في نشر الإسلام في المدينة المنورة، وأسلم على يديه الكثير والكثير، منهم ثلاثة من أئمة الأنصار وسادتهم وأعلامهم، وكلهم من بني عبد الأشهل الأوسيين، وهم عبّاد بن بشر، وأسَيْد بن حضير، وسعد بن معاذ، وقد أسلم بإسلامهم غالب بني عبد الأشهل في يوم واحد، الرجال والنساء.
وقد ذكر ابن هشام وابن كثير والبيهقي وغيرهم قصة مصعب بن عمير مع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وإسلامهما، وفيها أسوة حسنة لكل داعية إلى الله عز وجل أن تكون دعوته خالصة لله عز وجل، وأن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وفيها: "أن أسعد بن زرارة خرج به يوما يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخلا في حائط (بستان) من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها بئر مرق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين - وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك -، فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا. فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إنْ يجلس أكلمه، وجاء أسيد فوقف عليهما مُتَشَتِّمًا، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن. قال: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، وفي إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. فقام واغتسل، وطهر ثوبه، وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي رجلا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن - سعد بن معاذ - ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم، فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.. ثم خرج إليهما.. وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد، فقال مصعب لسعد بن معاذ: أوَ تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: قد أنصفت، ثم ركز حربته فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه، وتهلله، ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟ قالا: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. ففعل ذلك. ثم أخذ حربته، فأقبل إلى نادي قومه، فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيماننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قالا: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون..".
وظلَّ مصعب رضي الله عنه قرابة عام في يثرب (المدينة المنورة) يدعو الناس إلى الإسلام، ويعلمهم أمور دينهم، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بما فتح الله عليه، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعودته، وبما فتح الله عليه، فرحاً عظيما، وأقام مصعب رضي الله عنه بمكة قليلا ثم عاد إلى المدينة المنورة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليها في السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية.
الحكمة النبوية في اختيار الدعاة والسفراء:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً، عليمًا بأصحابه، وقد ذكر علماء السِيَّر أسماء سفراء ورُسُل ودعاة النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المدن وبعض الملوك والأمراء وهم كثير، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهم قائماً على مواصفات يتحلون بها، من علم وفصاحة، وصبر وشجاعة، وحكمة وحُسْن مظهر.
فاختار صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرسله إلى المدينة المنورة، وكان رضي الله عنه من المهاجرين إلى الحبشة، وهجرة الحبشة لا شكَّ قد أكسبته خبرةً في التعامل مع الأغراب، والتعامل مع عادات وتقاليد مختلفة، فإن كان يستطيع أن يتعامل مع أهل الحبشة، وهم ليسوا عربًا أصلًا، ويدينون بدينٍ لا ينتشر في مكة وهو النصرانيَّة، فهو ـ من باب أولى ـ يستطيع أن يتعامل مع أهل يثرب، وهم من العرب، ثم إن مصعب رضي الله عنه كان يَتَّصف بالحكمة والعقل، والهدوء والصبر، وسعة الصدر والحلم، وظهر ذلك في موقفه مع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وإسلامهما، وكان يحفظ كلَّ ما نزل من القرآن، ولم يُشْتَهر عنه ذلك العلم لأنَّه مات مُبَكِّرًا، فقد مات رضي الله عنه في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَدِّم حفظة القرآن في كثيرٍ من الأمور.
واختار النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما وأرسلهما إلى اليمن، وهما من أفضل صحابته وفقهائهم، وبعثهما للقيام بمهمة تعليم الناس أمور دينهم.
وكذلك كان اختياره صلى الله عليه وسلم لدحية الكلبي وعبد الله بن حذافة وحاطِب بن أبي بَلْتَعَة رضي الله عنهم ليكونوا سفراء لبعض الملوك والأمراء، فاختار صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي رضي الله عنه، وأرسله إلى هرقل عظيم الروم، يقول ابن حجر في كتابه الإصابة عن دحية: "كان يُضرب به المثل في حسن الصورة". وكان دحية ـ مع حُسن مظهره ـ فارساً ماهراً، وعليما بالروم. وأرسل عبد الله بن حذافة رضي الله عنه إلى كِسْرى عظيم الفرس، وكان له دراية بهم ولغتهم، وكان ابن حذافة مضرب الأمثال في الشجاعة ورباطة الجأش. كما أرسل صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك مصر حاطب بن أبي بلتعة، وقد قال في وصفه ابن حجر :"كان أحد فرسان قريش وشعرائها في الجاهلية"، وكان له علم بالنصرانية، ومقدرة على المحاورة.
لقد كان مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل إسلامه أحسن فتيان مكة شباباً وعِطراً وجمالاً، ولما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وعَلِم باجتماعه في دار الأرقم بأصحابه، سارع إليه ليسمع منه آيات القرآن فكان له مع الإسلام موعداً. وهو ممن هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة المنورة، وكان أول سفير في الإسلام، وأول من صلى الجمعة في المدينة، وقد شهد بدراً وأحداً، وأكرمه الله عز وجل بالشهادة في غزوة أحد..
وفي كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي الكثير من مناقب وفضائل مصعب بن عمير رضي الله عنه، ومن ذلك: "قال ابن شهاب: وكان أول من جمع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن البراء قال: أول مَنْ قدِم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير. وعن عمر بن الخطاب قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه اهاب كبش قد تنطق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغدوان بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون. وعن محمد بن شرحبيل قال حمل مصعب اللواء يوم أحُد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب فأقبل ابن قميئة فضرب يده اليمنى فقطعها ومصعب يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}(آل عمران: 144)، وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه فضربها فقطعها، فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه".
وفي مصعب بن عمير رضي الله وفي أصحابه قال الله عز وجل: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب:23).
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من البعثة إلى الهجرة