روى الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة وانس بن مالك وغيرهما: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [ستكون، أو قال: سيأتي على الناس، أو قال: قبل الساعة، أو إن بين يدي الساعة.. سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة".. قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة]. وفي لفظ عند أحمد "الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ". وفي رواية: "الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة".
هذا الحديث علم آخر من أعلام النبوة، وخبر صادق من الذي لا ينطق عن الهوى، وإخبار بغيب لم يقع كيف يقع حين يقع، وهو واقع لا محالة، وقد وقع كما أخبر ووصف صلوات ربي وسلامه عليه.. والأمر كما قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى , إن هو إلا وحي يوحى}.
فبين صلوات الله وسلامه عليه أنه بين يدي الساعة تتغير الأحوال، وتتبدل المفاهيم، وتنقلب الموازين.. ويعيش الناس في خديعة كبيرة، لا يعرفون صادق الناس من كاذبهم، ولا أمين القوم من خائنهم.
اختلال عام:
إنه لم يخل زمان من تصديق كاذب أو تكذيب صادق، أو ائتمان خائن وتخوين أمين.
فقد كان فرعون صاحب أكبر كذبة في الوجود، عندما قال للناس أنا ربكم الأعلى، ودعا الناس لعبادته، وزعم أنه يريد الخير لهم والصلاح، وكان موسى أصدق من مر على أهل مصر وبني إسرائيل، وأنصحهم وأخلصهم لهم.. ومع ذلك صدق الناس فرعون وكذبوا موسى.
وكان مؤمن آل يس أكثر قومه أمانة لهم ونصحا لهم، حين أمرهم أن يتبعوا المرسلين، ونصحهم بطاعة رب العالمين.
فقالوا عميل خائن، تعمل لجهات خارجية، وتتآمر لقلب نظام الحكم، وقتلوه.. فما زال ينصح لهم بعد موته {قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}. فخونوه وهو الأمين، وكذبوه وهو الصادق.
فما خلا الزمان من تأمين خائن وتخوين أمين، ولا تصديق كاذب وتكذيب صادق.
لكن الذي تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم شيء غير هذا.. إنه اختلال تام، وانتشار الأمر وفشوه، حتى يصبح سمة عامة وعلامة مميزة لأهل ذلك الزمان.. فيتجلى الكرب، ويدلهم الخطب، وتكثر الفتن والبلايا، وتعظم المحن والرزايا.
إنه واقع أقرب ما يكون لواقعنا، ليس على مستوى بلد أو وطن، بل على مستوى الأمة بأكملها، أمة العرب، وأمة الإسلام.
انظروا فقط إلى الأحداث والوقائع، واسمعوا إلى الإعلام، وتابعوا؛ لتروا الأهوال وانقلاب الموازين وتغير الأحوال على جميع المستويات.
فالصادق الأمين يقال عنه كاذب خائن. والكذاب الأفاك، يقال أمين صادق.
والناصح المخلص يسجن ويهان ويدان.. والعميل الخائن يصفق له ويرفع ويصان.
المؤمن التقي إرهابي متخلف.. الفاجر الفاسق الشقي، إنسان شريف ومواطن صالح.
المرأة العفيفة المتسترة يخوف منها ويحذر، والعارية المتبذلة المتفسخة داعية تقدم وتحرر.
هل سمعتم أو قرأتم أحدا تكلم عن العري والسفور وأثره على الشباب والمجتمع؟
كل المقالات والكلام عن المحجبات والمنقبات، والنقاب ليس من الدين، والعاريات أطهر وأكثر ثقة في النفس من المنقبات.. إلى أخر هذا الهراء.. وكأن العري هو الحضارة والعفاف والشرف والدين، وكأن الله في كتابه أمر النساء بالتعري لا بالتحجب والستر والتعفف.
هل سمعتم أو قرأتم عن أحد تكلم عن ممثل فاجر، أو فيلم داعر، يدعو الشباب للفجور والفتيات للسفور والكل لشرب المخدرات والخمور؟ أو عن أفلام تدعو للإجرام والبلطجة والعربدة؟
هل تكلم أحد عن هذا، أم أن الهجوم على حلقات التحفيظ، وأهل المساجد، والمؤسسات الخيرية التي تعين المحتاجين، وتساعد الأيتام والأرامل والمساكين، ومراكز الدعوة التي تدعو إلى دين رب العالمين؟..
ولم يعد التحذير من المؤسسات الخيرية شعارا للكفار والمشركين ـ حاشا ـ لكنه أصبح ديدنا لمن يزعمون أنهم مسلمون، يدعون لمحاصرة هذه المؤسسات ومراقبة المساجد والمصلين.. ويستعْدُون الصليبين على المسلمين، ويخوفونهم من الإسلام والمسلمين، ويحرشونهم لمراقبة المصلين، ومحاصرة المؤمنين.
بالله عليكم أين العلماء والمصلحون والدعاة المخلصون، وما هو مقامهم ومكانهم في أكثر بلاد المسلمين؟ وما هو قدرهم في مجتمعاتهم؟
أمة تشتكي
إن الأمة في مجملها تشكو هذا الحال.. ولست أنا فقط من أشكوه، أو بعض المخلصين، ولكن أصبح الحال كما قال بعضهم:
ما أنا الشاكي ولكن أمة .. .. أصبحت تشكو كما يشكو اليتامى
تبصــر الشر ولا تنكره .. .. وعن المعــروف ـ جبنا ـ تتعـامى
وتداري كل أفــاك ولــو .. .. بث في أبنائــها الــرأي الحــرامـا
وترجي من أعاديها الهدى .. .. وتواليــهم قضــاء واحتــكــامـا
كم صفيق الوجه صفقنا له .. .. وسفــيه قـــد جعــلنـــاه إمـامــا
وشريف القصد شهرنا به .. .. وظــلمــناه اعـتــداء واتـهــامــا
وينطق الرويبضة
إن هذا الاختلال في الموازين أدى إلى أن يتصدر المشهد أناس أراذل لا قيمة لهم ولا وزن لهم.. وهو أمر طبيعي إذا كُذّب الصادق وخون الأمين فلن يتصدر إلا الكذاب الخؤون والأفاك الأثيم، فعندئذ يكون الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: [وينطق الرويبضة].
والرويبضة: تصغير رابضة.. والتاء هنا للمبالغة، وهو الإنسان الخسيس الحقير، "العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها" (ابن الأثير).
وقد وصفه النبي صلوات الله وسلامه عليه بثلاثة أوصاف كلها تدل على النقص والحقارة والخسة والذلة...
فقال: السفيه.. الفويسق.. التافه.
والسفيه: هو الذي لا عقل له، أو ناقص العقل الطائش.
والفويسق: تصغير فاسق "وهو تصغير للتحقير"، وهو الإنسان الفاجر العاصي الخارج عن طاعة الله.
والتافه: هو الحقير الذي لا مقام ولا قدر له، ولا وزن له.
إذا ضيعت الأمانة
وإنما كان تصدر مثل هذه الشاكلة أمرا طبيعيا كما قلنا، وهو أيضا علامة أخرى من علامات قرب الساعة، كما في الحديث [أن رجلا جاء فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.. قال وما أضاعتها؟ قال إذا ولي الأمر غير أهله فانتظر الساعة].
وهذا باب واسع يبدأ من أصغر وظيفة إلى أكبر وظيفة في المجتمع.. ومن أصغر موظف إلى أكبر مسؤول، حتى رأس الحكم في البلاد.. مرورا بمديري الإدارات ورؤساء الأقسام ومن وراءهم.
وهذه علامة أخرى من علامات الاختلال وعدم الاتزان، والظلم وعدم العدالة، والخيانة وعدم الأمانة، أن يتولى الأمور من لا يحسنها، ومن ليس لها بأهل؛ فتفسد الأحوال، وتختلط الأمور، وتكثر المظالم وتفسد الأحوال، وينتشر الفساد، ويستتبع ذلك مفاسد أخرى لا حصر لها. كما جاء في حديث عبس الغفاري قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف على أمته ست خصال: بيع الحكم، وإمارة السفهاء، وكثرة الشرط، وقطيعة الرحم، واستخفاف بالدم، ونشو يتخذون القرآن مزامير يقدمون الرجل بين أيديهم ليس بأفقههم لا يقدمونه إلا ليغنيهم به غناء]. صححه الألباني، والأرنؤوط.
إنها سمات واضحات للسنوات الخداعات، نعوذ بالله من غضبه وعذابه، وشر عقابه..
ونسأل الله أن يحفظ بلاد المسلمين من كل شر وسوء.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالين.