في جمادى الأولى من السنة السادسة للهجرة النبوية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه في سبعين ومائة راكب، وكان الهدف من السرية اعتراض عير لقريش أقبلت من الشام بقيادة أبي العاص بن الربيع، وهو من تجار قريش وأمنائهم، وزوج زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد حاربأبو العاص رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بدر وأُسِر، ثم فدته زينب رضي الله عنها بقلادة لها، وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراحه من الأسْر، وأخذ عليه عهداً حين يرجع إلى مكة أن يسمح لزينب رضى الله عنها بالهجرة إلى المدينة المنورة، لأنها كانت في مكة حينئذ ولم يكن نزل التفريق بين الزوجة المسلمة وزوجها الكافر، فوفَّى أبو العاص بعهده وسمح لزينب بالذهاب إلى المدينة، فكان صلى الله عليه وسلم يثني عليه فيقول: (أَنْكَحْتُ (زوَّجْتُ) أبا العاص بن الربيع فَحَدَّثَنِي وَصَدَقنِي) رواه البخاري. وفي رواية أخرى: (وَوَعَدَنِي فَأوْفَى لي)، قال ابن الأثير: "هذا المشار إليه بالوعد والوفاء: هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أُسِرَ في غزوة بدر، فأرسلت زينب فداءه من مكة، وهي قلادة أمها خديجة رضي الله عنها، فرقَّ لها رسول صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، واستطلق أسيرها من المسلمين، وشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن ينفذ (يرسل) زينب إليه إذا وصل إلى مكة، ففعل".
التقت سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه بقافلة قريش التي يقودها أبو العاص بن الربيع عند منطقة الْعِيص على بعد أربعة ليال من المدينة المنورة، فأخذوها وأسروا ناسا كانوا فيها، منهم: أبو العاص بن الربيع، وقدموا بهم إلى المدينة.
إجارة زينب لأبي العاص:
أرسل أبو العاص إلى زينب رضي الله عنها ـ كما صحح الألباني وغيره ـ: (أن خُذي لي أماناً من أبيك، فخرجتْ فأطلَّتْ برأسِها من بابِ حُجرتِها ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الصُّبح يُصلِّي بالناس، فقالت: يا أيها الناس أنا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني قد أَجَرْتُ أبا العاص، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال: يا أيها الناسُ إني لم أعلمْ بهذا حتى سمعتُموه، ألا وإنه يُجيرُ على المسلمين أدْناهم).
وروى البيهقي عن زينب رضي الله عنها: "قلتُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ أبا العاص إن قرُب فابنُ عمٍّ، وإن بعُد فأبو ولَدٍ، وإنِّي قد أجَرْتُه". وفي المستدرك على الصحيحين للنيسابوري: "عن عائشة رضي الله عنها قالت: صرخت زينب رضي الله عنها أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فلما سلم رسول الله من صلاته أقبل على الناس فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم، ثم انصرف رسول الله فدخل على ابنته زينب فقال: أي بنية أكرمي مثواه، ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له .. وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص وقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم ذلك فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم فأنتم أحق به، قالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوا عليه ماله حتى إن الرجل ليأتي بالحبل ويأتي الرجل بالشنة (القِرْبَة) والأداوة (إناء صغير يحمل فيه الماء)، حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئًا".
وقال الذهبي: "خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام بماله، وبمالٍ كثيرٍ لقريش، فلما رجع لقيته سرية (أميرها زيد بن حارثة وذلك في جمادى الأول سنة ست من الهجرة) فأصابوا ما معه، وأعجزهم هارباً، فقدموا بما أصابوا، وأقبل أبو العاص في الليل حتى دخل على زينب، فاستجار بها فأجارته، وجاء في طلب ماله. فلما خرج صلى الله عليه وسلم إلى الصبح وكبَّر وكبَّر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء (مكان مظلل في المسجد للنساء): أيها الناس إني قد أجرتُ أبا العاص بن الربيع. وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى السرية الذين أصابوا ماله فقال: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنَّا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به. قالوا: بل نرده، فردوه كله، ثم ذهب (أبو العاص) إلى مكة، فأدَّى إلى كل ذي مالٍ ماله، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيَّاً كريما، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أكل أموالكم. ثم قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ولما أسلم أبو العاص بن الربيع ذهب إلى المدينة المنورة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين زينب رضي الله عنها، وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة النبوية.
لقد بلَغَ من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالجوار وحبِّه له، أن أجاز لكلِّ مسلم ـ رجلاً كان أو امرأة ـ أن يُجير ويؤمِّن، فلو صدر أمان منْ مسلم لأحد من الناس فليس لمسلم أن ينقضَه، وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على مشروعية الأمان، منها: ما رواه البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذمةُ المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم، فَمَنْ أَخْفَرَ مسلمًا فعليهِ لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين، لا يقبل اللهُ منه صرفاً (فريضة) ولا عدلًا (نافلة)). قال النووي: "المراد بالذمة هنا الأمان، ومعناه: أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أمَّنه به أحد من المسلمين حرُم على غيره التعرُّض له، ما دام في أمان المسلم، وللأمان شروط معروفة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله) معناه: من نقض أمانَ مسلم فتعرَّض لكافر أمَّنه مسلم، قال أهل اللغة: يقال: أخفرتُ الرجل إذا نقضتُ عهده، وخفرته إذا أمَّنته". وقال الخطابي: " أجمع عامة أهل العلم أن أمان المرأة جائز ". وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: "إن كل من أمَّن أحداً من الحربيين جاز أمانه على جميع المسلمين دَنِيَّاً كان أو شريفا، حراً كان أو عبداً، رجلا أو امرأة، وليس لهم أن يخفروه".
لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الجوار مجرَّد نافلة فاضلة، وإنما عدَّه عَقْداً لازماً يجب احترامه، وعهداً ينبغي الوفاء به، ولا شك أن هذا الجوار الذي فيه إعزاز وتكريم للمسلم يستعمل في الخير والمصلحة والضوابط التي حددها الشرع.. وفي ذلك الجوار الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم لابنته زينب في سرية زيد رضي الله عنهما، والذي تكرر مع أم هانئ رضي الله عنها في فتح مكة، فيه إشارة واضحة من النبي صلى الله عليه وسلم في تكريم المرأة وإعلاء شأنها.