الإعلام الذي يتعمد الكذب والتضليل، ويحترف نشر الأكاذيب والأباطيل، ويجتهد في تشويه كل ما هو إسلامي، ويسعى لتدمير العقول والمشاعر، والأخلاق والضمائر اجتهاد الجيوش الغازية في تدمير العمران وسفْك الدماء، وإزهاق الأرواح.
هذا النوع من الإعلام قديم بقدم الرسالة، أو حتى الرسالات، وقد وجد هذا الإعلام بقوة في عهد الدعوة الإسلامية الأولى مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وشهِد ذلك العهد معركة كان للإعلام فيها دور مشابه للدور الذي يقوم به الآن، وكان يمضي على ذات المحاور التي يمضي عليها الآن، وإلى ذات الغاية التي يتغياها، ولكن الاختلاف فقط في الآليات والأدوات والأمور التقنية الفنية، فلا شك أنها كانت بسيطة ببساطة الحياة آنذاك. ولهذا يجب أن نأخذ من طريقة تعامل النبي مع أحداثه العبرة والعظة وكيف واجه النبي وصحابته والخلفاء الراشدون من بعده خطر هذا الجهاز الخطير؟
القرآن في المواجهة
من تأمَّل القرآن الكريم وهو يواجه الحرب الضَّروس التي شنَّتها الجاهلية ضد النبي - صلى الله عليه وسلم- ودعوته، علِم كم كان خطر الإعلام يومها، وكم كانت ضَراوته، فمنذ اللحظة الأولى للجهر بالدعوة، تناول القصف الإعلامي شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوته بالتجريح والتشكيك، والطعن والافتراء، فقالوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي نشأ فيهم، وعرَفوا صِدقه وأمانته، قالوا عنه: ساحر، شاعر، كذاب، مجنون، وقالوا عن القرآن: سحر يُؤثر، شعر، أساطير الأولين، واستجابة وتجوبًا مع صيحة الملأ: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6].
انطلقت الآلة الإعلامية تفتري الكذب وتنشره في الآفاق: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ}(الفرقان:4)، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5]، {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}(الفرقان:7)، {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}[الطور:30]، {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ}[الطور:33]، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31].
إعلام اليهود والمنافقين
ولما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وصارت له دولة وقوة، لم يسلم من كيد الإعلام، بل إن الواقع يشهد بأن القصف الإعلامي تضاعف، بسبب انضمام إعلام يهود وإعلام ابن سلول لإعلام قريش، وانطلق الإعلام يمارس دوره على ذات المحاور التي يمارس عليها الإعلام المعاصر ذات الدور، فلم يقتصر دور الإعلام على التشكيك والافتراء، والطعن والتجريح، وخلخلة الثوابت، حتى تعداها إلى الإرجاف وإشاعة الفاحشة، وتمزيق المجتمع؛ لذلك - وعلى أثر إرجافهم في غزوة الأحزاب وقولهم: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا - أنزل الله قوله محذرًا من قرار حاسم يمكن أن يُتَّخذ ضدهم من القيادة السياسية: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:60].
ولدى عودة الجيش الإسلامي من غزوة المريسيع، وقعت حادثة أساء إعلام ابن أُبي استغلالها، وذلك حين تنازع اثنان من المسلمين على الماء؛ أحدهما من المهاجرين، والآخر من الأنصار، حتى على صوتهما بصيحة الجاهلية: يا للمهاجرين يا للأنصار، فلعب إعلام ابن سلول على وتر العصبية، وأراد غرس الفتنة والفرقة، وراح يذيع في الأنصار: أنتم الذين أسكنتموهم دياركم، وقاسَمتموهم أموالكم، ما نحسبنا وإياهم إلا كما قال الأول سمِّن كلبك، يأكلك، والله لئن أمسكتُم عنهم ما بأيديكم، لتحوَّلوا إلى غير داركم؛ مما كان سببًا لنزول الآيات: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[المنافقون:7 - 8].
ولم يكن حديث الإفك الذي زلزل بيت النبوة، وكاد أن يقوض الكِيان الاجتماعي للمدينة، إلا أثرًا من آثار إعلام ابن أُبي؛ مما استدعى نزول سورة تبرئ فراش النبوة مما نُسِب إليه كذبًا، وتضع جملة من الآداب الاجتماعية العالية، كان منها أدب يعد تحصينًا للمجتمع من كيد الإعلام، وهو أدبُ حسن الظن، وعدم اتباع الأكاذيب، أو ترويجها على من عُرفوا بالفضل: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}[النور:12]، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور:16].
ضوابط لمقاومة الإعلام المضلل
والسؤال الأهم هنا: ما هي الوسائل التي نقاوم بها خطر الإعلام؟
والإجابة على هذا السؤال غاية في الوضوح، إذا ما عدنا إلى الكتاب والسنة وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم- وصحابته وخلفائه الراشدين.
الوسيلة الأولى: لمواجهة الخطر الإعلامي هي أن يتربَّى المسلم على ألا يكون سماعًا؛ أي: يسمع الفِرية، فيبتلعها، ويُركن إليها، وتتسلَّل إلى نخاع عقله ولُب قلبه، دون نظرٍ أو تدبُّر، وعلى أن يتعوَّد ردَّ الأمر إلى أهله، بدلاً من إذاعته وإشاعته، وعلى عدم ترديد ما يقال في وسائل الإعلام؛ قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة:47]. {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: 83]، {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[النور:15]، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور:16].
وقصة الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي مثلٌ بارز، فقد استمر التأثير الإعلامي لقريش يلح عليه حتى حشا أُذنيه بالكُرسف، ولكنه عندما سمع بعض ما يقرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد الحرام، قال لنفسه: واثكل أُمي، إني لرجل شاعر لبيبٌ، لا يخفى عليّ الحسن من القبيح من الكلام، ونزع الكُرسف وانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فاستمع منه، وأسلم على يديه.
الوسيلة الثانية: ردُّ الشبهات ودحض المفتريات، لا سيما ما له رَواج على الناس وتأثير في العامة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما وقع من سرية عبدالله بن جحش حين قتلوا رجلاً من المشركين في الشهر الحرام، فاستغل إعلام قريش هذا الحدث واستثمره في تشويه صورة الإسلام والمسلمين لدى قبائل العرب، قائلين: كيف يدعي محمد أنه على دين إبراهيم، ثم يقتل في الشهر الحرام مخالفًا بذلك دين إبراهيم، فنزل القرآن للردّ ولتعليم المسلمين كيف يكون الرد على مثل هذه الشبهات التي لها أصل تَمَّ تضخيمه وإذاعته، فقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة:217].
فالقتل في الشهر الحرام كبيرة بلا جدال ولا لجاج، ويجب أن نعترف بذلك، لكن على الجانب الآخر نجد أن هذا الخطأ الاجتهادي من المسلمين قابلته خطايا من المشركين، تمثَّلت في الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام، وهذه أكبر بكثير.
ولَمَّا نزل الأمر بتحويل القبلة، تحرَّكت الآلة الإعلامية لليهود مثيرة للجدل والشكوك: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}[البقرة:142]. وراحت تُسفسط حول الحدث بما يشبه التحليل العلمي - وما هو من العلم في شيء - بإثارة هذه الإشكاليات: لئن كانت صلاتكم بالأمس إلى بيت المقدس هي الصحيحة، فصلاتكم اليوم إلى المسجد الحرام باطلة، وإن كانت صلاتكم إلى المسجد الحرام هي الصحيحة، فصلاتكم من قبلُ إلى بيت المقس باطلة، وكان جواب القرآن على هذه التحكمات المفتعلة حاسمًا وصريحًا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة:115].
وإذا كان أثر الإعلام قد تعدَّى العقول والأفكار إلى القلوب والمشاعر، فعلى أهل الشأن أن يزيلوا تلك الآثار، ومن أمثلة ذلك ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم- عندما نجح الإعلام في شحن قلوب الأنصار بشيء من الحفيظة والغضب، عندما أعطى غنائم حُنين لرجال من قريش تأليفًا لقلوبهم، ولم يعط منها الأنصار شيئًا، فاستدعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال لهم: [أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قومًا ليُسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رحالكم]، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا".
الوسيلة الثالثة: ألا نقف موقفًا يعطي الإعلام فرصة للنيل من الحق وأهله، ومن أمثلة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم- رفض أن يقتل عبدالله بن أُبي عندما قال ما قال في أثناء العودة من المريسيع، وبين لعمر - الذي انبرى لقتله وأراد استصدار أمر من النبي بذلك - أن الإعلام سيذيع عنه أنه بدأ يقتل في أصحابه، وقال: [دَعْه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه](متفق عليه).
وبعد أن فتح مكة ودانت له القبائل وأسلست له بطون مكة قيادها، أراد أن يهدم الكعبة، ويعيد بناءها على قواعد إبراهيم، فيدخل فيها حجر إسماعيل، ويوسعها ويجعل لها بابين، ولكنه بعد أن همَّ تراجع خشية أن يكدر عليه الإعلام الرأي العام في بيئة حديثة عهد بجاهلية، وقال لعائشة: [لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لنقضت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم](رواه مسلم).
الوسيلة الرابعة: أن نحسن استغلال الإعلام في توجيه ضربة عكسية للمعارضين المستخدمين له، وهذا عمل احترافي لا يُحسنه إلا الحُذَّاق من الساسة الكبار، ولنضرب مثلاً لذلك بسيد الأحابيش عندما جاء ساعيًا بين قريش ومحمد في الحديبية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "إن هذا من قوم يتألَّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه" (رواه أحمد).
فلما فعلوا ذلك ورأى الرجل الهدي معكوفًا أن يبلغ محله تأثر جدًّا، وانطلق وهو بوق إعلامي إلى قريش موبخًا وناشرًا لمساوئها.
وأخيرًا أحب أن أزف البشرى لأهل الحق الذين ظلمهم الإعلام الرديء، فإن واقعنا يثبت أن منتج الإعلام الذي تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لو كان نال منه، ما وصل إلينا الإسلام ولا بلغنا شيء من الحق؛ بل ذهب كله هباء كما سيذهب إن شاء الله المنتج الإعلامي الحالي كله؛ ليبقى الحق كما بقِي من قبلُ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}[الرعد: 17].
ولكن هذا مشروط بمدافعة أهل الحق لأهل الباطل؛ حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}[الشعراء: 227].