قال ابن قرقول في مطالع الأنوار: وقد أوتي النبي -صلى الله عليه وسلم- جوامع الكلم وسواطع الحِكم من عند رب العالمين، فكلامه أشرف الكلِمِ وأفضلها، وأجمع الحِكَم وأكملها، كما قيل: "كلام الملوك ملك الكلام"، وهو تِلْوُ كلام الله تعالى العلام، وثاني أدلة الأحكام، فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها، وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها، تتوقف على بيانه - صلى الله عليه وسلم -، فإنها مالم توزن بهذا القسطاس المستقيم، ولم تضرب على ذلك المعيار القويم لا يعتمد عليها ولا يصار إليها. أ.هـ
ومن جوامع الكلم النبوي ما روى مسلم عن النواس بن سمعان الأنصاري قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس».
قال ابن حجر الهيتمي في الفتح المبين بشرح الأربعين: وهو من جوامع كلمه -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل من أوجزها؛ إذ البر: كلمةٌ جامعةٌ لجميع أفعال الخير وخصال المعروف، والإثم: كلمةٌ جامعةٌ لجميع أفعال الشر والقبائح كبيرها وصغيرها، ولهذا السبب قابل -صلى اللَّه عليه وسلم- بينهما وجعلهما ضدين.
وفي بابه أيضا: ما روى المنذري في الترغيب والترهيب قال: عن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألت عنه, فقال لي: «أُدْنُ يا وابصة»، فدنوت منه؛ حتى مست ركبتي ركبته, فقال لي: «يا وابصة, أخبرك عما جئت تسأل عنه»؟ قلت: يا رسول الله, أخبرني, قال: «جئت تسأل عن البر والإثم», قلت نعم, فجمع أصابعه الثلاث, فجعل ينكت بها في صدري, ويقول: «يا وابصة, استفت قلبك, والبر ما اطمأنت إليه النفس, واطمأن إليه القلب, والإثم ما حاك في القلب, وتردد في الصدر, وإن أفتاك الناس وأفتوك». قال ابن رجب: وقد روي هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه متعددة وبعض طرقه جيدة، فرواه الإمام أحمد والدار قطني، وغيرهما. أ.هـ.
قال الألباني: حسن لغيره.
البر: اسم جامع لكل خير.
والإثم: هو الذنب.
حاك: قال الطيبي: أي أثَّر فيها ورسخ، يقال: ما يحيك كلامك في فلان، أي ما يؤثر، والإثم ماحاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، أي أثر في قلبك وأوهمك أنه ذنب وخطيئة. أ.هـ.
وفي كلام الشراح عند قوله: «استفت قلبك»، حملوا ذلك على الخواص من المؤمنين، ذوي النفوس النقية التي صارت تميل للحق بطبعها، وتنفر عن الباطل بسجيتها، وهذا لا يدركه إلا من ارتاضت نفوسهم على الحق، واستوحشت قلوبهم من الباطل وما اشتبه به، فيكون رجوعهم إلى طمأنينة نفوسهم، وما سكنت إليه قلوبهم، بخلاف غيرهم ممن قد تطمئن نفوسهم للحرام الصريح، فلا عبرة بطمأنينة نفوسهم المدخولة، وقلوبهم المشربة بالإثم والهوى.
قال ابن عثيمين في شرح الأربعين النووية عند قوله: «استفتِ قلبك» هذا لمن قلبه سليم ونيته صادقه، أما من ليس كذلك فقلبه لا يطمئن للبر ولا تطمئن إليه نفسه، ولهذا تجده إذا شرع في البر يضيق ذرعا، ويسرع هربا، حتى كأنه مطرود، لكن المؤمن يطمئن قلبه، وتطمئن نفسه إلى البر...ومما يؤيد هذا: "أن الخطاب هنا لرجل صحابي حريص على تطبيق الشريعة فمثل هذا يؤيده الله عز وجل ويهدي قلبه حتى لا يطمئن إلا إلى أمر محبوب إلى الله عز وجل. أ.هـ
قال ابن رجب: في قوله: «الإثم ما حاك في الصدر، وكرِهتَ أنْ يطَّلع عليه الناس» إشارةٌ إلى أنَّ الإثم ما أثَّر في الصدر حرجاً، وضيقاً، وقلقاً، واضطراباً، فلم ينشرح له الصَّدرُ، ومع هذا، فهو عندَ النَّاسِ مستنكرٌ، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عندَ الاشتباه، وهو ما استنكره النَّاس على فاعلِه وغير فاعله.
ومن هذا المعنى قولُ ابن مسعود: ما رآه المؤمنون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً، فهو عند الله قبيح. رواه أحمد في المسند. أ.هـ.
ولا شك أن الأخذ بظاهر هذا الحديث على الإطلاق يشكل على ما تقرر في نصوص أخرى، إذ كيف تقدم طمأنينة النفس على فتوى العلماء، فلا بد من الرجوع لكلام أهل العلم في ضبط هذا المعنى بحيث يتفق مع النصوص الأخرى، وهنا أنقل كلاما لابن حجر الهيتمي في شرحه للأربعين النووية، فقد وجه الحديث توجيها بديعا فيقول:
"ومحل ذلك: إن كان المستنكِر ممن شرح اللَّه صدره، وأفتاه غيره بمجرد ظنٍّ أو ميلٍ إلى هوًى من غير دليلٍ شرعيٍّ، وإلَّا. . لزمه اتباعه وإن لم ينشرح له صدره، ومن ثم كره -صلى اللَّه عليه وسلم- امتناع قومٍ أمرهم بالفطر في السفر؛ إذ ما ورد به النص ليس للمؤمن فيه إلا طاعة اللَّه تعالى ورسوله، فليقبله بانشراح صدرٍ؛ قال تعالى: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
وأما ما لا نص فيه منه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا ممن يُقتدى بقوله؛ فإذا وقع منه شيءٌ في قلبٍ منشرحٍ بنور المعرفة واليقين مع تردُّدٍ، ولم يجد من يفتي فيه إلا من يخبر عن رأيه وهو غير أهلٍ لذلك. . رجع لما أفتاه به قلبه وإن أفتاه هذا وأمثاله بخلافه.
والظاهر: أن هذا ليس من الإلهام المختلف في حجيَّته؛ لأنه -أي الإلهام- شيءٌ يقع في القلب من غير قرينةٍ ولا استعدادٍ، فيثلُج له الصدر، وأما ما هنا فهو ترددٌ منشؤه قرائن خفيةٌ أو ظاهرةٌ؛ لأن الفرض أن الأمر مشتبهٌ، وأن القلب مال إلى أنه إثمٌ، فليرجع إليه فيه؛ كما دلَّت عليه النصوص النبوية، وفتاوى الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم. أ.هـ.