في أخبار الأدب المشهورة أن "الحطيئة" هجا "الزبرقان بن بدر" رضي الله عنه، فقال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها .. .. واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فهاج الزبرقان وماج، وأرغى وأزبد، وشكا الأمر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأل عمر حسان بن ثابت ـ وهو شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أن يبين له قيمة الهجو في هذا الشعر، ولم يكن ذلك جهلا من عمر بمرامي الكلام؛ فأجاب حسان بما معناه: "الأمر أفحش من الهجاء، وإن أقذع الهجاء لأهون من هذا بكثير، وإنه لدنس صبه عليه لا تقوم به كرامة". فقضى عمر بحبس الشاعر.
والقارئ قد لا يرى في هذا الكلام ذكرا للآباء والأمهات، ولا تعريضا بالأعراض والسوءات، ومع هذا كانت منزلته في الهجو ما قرر حسان رضي الله عنه.
لم يقل الحطيئة للزبرقان إلا أن يقعد عن طلب معالى الأمور، ولا يجشم نفسه تحصيل المكارم التي تشرف بها النفوس، فإن همته لا تتعلق بشيء من ذلك، وأنه إذا كلف نفسه مشقة في هذا السبيل فقد أعنتها، وكلفها ما ليس من طبيعتها؛ إذ الأليق به أن يركن إلى الطعام واللباس. فليس يصلح إلا لهذين، ولا مأرب لهمته إلا فيهما، أو قال له بالتعبير العصري: مثلك الأعلى الذي يصلح أن تعيش له ولا تصلح لغيره هو الاستغراق في شهوة الطعام واللباس.
وفي هذه القصة معنيان بازران:
الأول: أن الحطيئة كان خبيرا بالحياة، وأنها ذات وجهين أو غايتين: غاية خسيسة يعيش عليها الأدنياء، وغاية شريفة يحيى لها الفضلاء.
فالأولون يرون سعادتهم لذة المطعم والملبس وكفى. والآخرون يجدون لتحصيل زادهم من الفضيلة، ومتاع نفوسهم من الخير والحق.. وهذا هو ما كانت تقوم عليه الحياة فعلا في ذلك العهد العمري الزاهر.
أما المعنى الثاني الذي يبرز في هذه القصة: فهو أن شعور الرأي العام كان شديد الحساسية بالفارق العظيم بين الغايتين. فكان أحدهم يسمو بهمته أن تنضمر في مطالب المعدة وترف البدن، ويفزع أن يوصم بين الناس بهذه الوصمة القاصمة؛ وإلى مكان هذا الفزع سدد الحطيئة ضربته القاسية إلى غريمه، أو صب عليه دنسا لا تقوم به الكرامة، على معنى ما قال حسان رضي الله عنه.
إذن هما أمران:
1 ـ غايتان إذا هما: إحداهما دانية المنال، والأخرى بعيدة المدى.
2 ـ وحساسية مرهفة في الشعور، تصد عن الغاية الأولى، وتثير أشواق العزائم إلى الأخرى.
وهاتان هما دعامتا الحياة الفاضلة يا أخي؛ اعتراف بغايتين، مع حساسية تحقر الأولى، وتمجد الأخرى. والناس بخير ما سلمت لهم هاتان الدعامتان.
هذا منطق الفطر السليمة والعقول المستقيمة.. فهل هذا هو ما تقوم عليه أساليب الحياة في حضارتنا المادية السائدة؟
لك أن تزن اهتمام الناس وتنظر فيها، فماذا ترى؟
هل تراهم يهتمون ويقبلون على مطالب الغاية العليا.. أم تراهم يهتمون بزينة الملابس والمساكن، ولذائذ المطاعم والمشارب؛ وأن أغلبهم صارت همته بطنه ودينه هواه.. حتى العاجز منهم لا يمنعه أن يخرج على الناس في أكمل زينة إلا أنه لا يجد ما ينفقه، فهولا ينفك يمد عينه وقلبه إلى ما يتمتع به غيره من زهرة الحياة الدنيا.
حولك طوائف من صغار الموظفين وكبارهم، وطوائف من التجار والأطباء والصناع ومن يسمون رجال الأعمال، فسائل نفسك، أي مثل أعلى تهفو إليه قلوب هؤلاء؟ أي فضيلة تتناجى بها ضمائرهم في محيطهم العملي وخارجه؟ أي أسلوب من أساليب الحياة الرفيعة يستغرق تفكيرهم بالليل والنهار فهم يدعون إليه، ويبذلون الجهد لتحقيقه؟
بل قف في ميدان كبير بمدينة كبيرة أو صغيرة، وتأمل من يمر بك من رجل وامرأة وفتى وفتاة، وسائل نفسك: فيم يفكر هؤلاء؟ وأي شيء يشغل الآن قلوبهم؟ وتسبح به خواطرهم؟ وتسعى إليه أرجلهم؟ هل شيء غير المال والملبس والمطعم والنزوات الفارغة: هل شيئ غير مآرب البدن المباشرة وغير المباشرة ومطالب النفس الحيوانية الباطنة والظاهرة؟
قد يجلس أحدهم فيحدثك بنعمة الله عليه، ماذا أريد من دنياي؟ إني ولله الحمد أسكن حسنا، وآكل حسنا وألبس حسنا، ولا مأرب لي من دنياي غير هذا، وهل يأخذ ابن آدم من دنياه إلا أن يعيش هذه المعيشة المريحة المحترمة؟ مطعم هني، ومركب وطي، وفراش دفي.
ترى لو أنك قلت لصاحبك: إن هذه غاية معيبة، وأن همة الإنسان ينبغي أن تكون إلى غاية أعلى وأعظم، وإنما هذه وسائل لا ينبغي أن ترقى إلى أعلى الغايات، أكان يغضب عليك غضبة الزبرقان؟ ويثور بالشكوى إلى الحكام؟
أيفعل هذا وهو الذي حدثك به وأظهر ارتياحه إليه؟ أيفعل هذا وهو يرى الجمهور يقيس الناس بمظاهرهم، لا بشرف معادنهم، ولا بحسن صنائعهم.
يقيسهم بما تحصي لهم الخزائن من الأموال، لا بما تحمد لهم الإنسانية من كريم الفعال.
لن يغضب ولن يثور، فإذا غضب فلأنك عبت عليه منهجه، وخالفت رأيه.. وقد ينقلب أستاذا متفلسفا يسفه لك رأيك، ويرميك بأنك لا تفهم حقائق الحياة، وأنك خيالي غير عملي أي أنه يغضب لأنك لم توافقه على ما يستحسنه، يغضب لدنياه الطاعمة الكاسية، وربما ذهب يستدل عليك بقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}، ولكن العجيب وهو يتحمس لطيبات الرزق لا يجد في نفسه خلجة للتحمس لما ورد في القرآن من الغايات التي تتعب في نيلها الاجسام. مع أننا لا نحرم على الناس مطايب معايشهم، وسعة أرزاقهم، ولكننا نأخذ عليهم صرف الهمة لأمر ضمنه الله، وصرفها عما أراده الله.. فقد ضمن الله الأرزاق للعباد وطمأنهم عليها، ثم طلب منهم الاهتمام بأمر عبادته وتحصيل رضاه، فمن ترك الثانية وانشغل بالأولى فقد أزرى بنفسه وعقله.
والخلاصة أن للحياة الفاضلة دعامتين واعترافا بغايتين، مع حساسية في الشعور بعدم تعظيم الأولى، والسعي في تمجيد الثانية.
فأين مواقع هاتين الدعامتين في عقول الناس، وحياة قلوبهم، ومظاهر حياتهم؟