هو أن يعرف الناس التقديم، لأننا كثيرا نؤخر التقديم ونقدم التأخير، نكبر الصغير ونصغر الكبير، نعظم الهين ونهوّن العظيم، فلابد أن نضع كل عمل في مرتبته التي وضعها فيها الشرع، من أخطر الأشياء أن نجعل ما رقمه واحد رقمه سبعون. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). فلابد من المحافظة على ترتيب المنازل، وهذا أمر فرط فيه المسلمون للأسف، لذلك احتجنا أن ننوه إليه ونؤكد عليه ونكرره ونضرب له الأمثلة وندرج الأدلة حتى يتفقه المسلمون في هذا الأمر، فهو من أفضل ما قد يصل إليه المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين).
وهذا الفقه له جذور، وإنما لم يعبر عنه مثل هذا التعبير، إنما وجد البحث في التفضيل بين الأشياء فوجدنا من يقول مثلا: (إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور)، وقد رأينا من يقول: (من ضيع الأصول حرم الوصول)، ورأينا ابن تيمية يقول (جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج)، أخذا بقوله تعالى:
[أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون].
رأينا الإمام الغزالي وهو أوسع من تحدث في هذا الموضوع، في كتابه "الإحياء" وكتابه "الغرور"، حيث يتحدث عن غرور بعض الناس بحيث يقدمون بأشياء لا تستحق التقديم على أشياء أهم منها وأخطر وأثقل ميزانا، وقال (إن فقد الترتيب بين الخيرات من جمله الشرور)، فقال مثلا نقدم الفرض على النافلة، ونقدم فرض العين على فرض الكفاية، ونقدم فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد على فرض الكفاية الذي قام به بعض الناس، فرض كفاية أن يوجد بعض الناس يشتغلون بالفقه، وفيه فرض كفاية أن يوجد بعض الناس يشتغلون بالطب، ولكنه مما عابه أن القرية الواحدة بها مثلا خمسون فرداً يشتغلون بالفقه ولا يوجد مسلماً واحداً يشتغل بالطب، إنما يعالج الناس من المسلمين والمسلمات أناس من أهل الذمة، هذا نوع من الخلل، فهو ذكر هذه الأشياء.
كذلك هناك فرض له موعد معين فلابد أن يؤدى فيه ويقدم على الفرض المطلق، مثل صلاة الجمعة لابد أن تؤدى في موعدها وهناك فرض آخر يمكن أن يؤدى بعد الصلاة، فلابد أن نرتب بين الخيرات وقال: ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور، وهناك أئمة وعلماء تحدثوا عن الموضوع في مناسبات شتى، فمثلاً ابن القيم تحدث عن أفضل الأعمال، ما أفضل ما يعمل ويتعبد به الله تعالى، فقال بعض الناس: أفضل الأعمال أشقّها، وقال البعض ما يتعدى نفعه للغير، وهو انتهى بأنه قال لا يوجد شيء اسمه أفضل الأعمال بإطلاق، إنما كل واحد في ظرفه المعين ووضعه الخاص يوجد أفضل عمل بالنسبة له، أفضل بالنسبة للغني ليس أن يصوم، لا بل أن ينفق ماله في سبيل الله وفي خدمة المجتمع، وبالنسبة للعالم أفضل عمل أن يعلم الناس، الحاكم أفضل عمل له أن يعدل بين الناس (يوم من وال عادل أفضل من عبادة ستين سنة).
وهكذا، قال صلى الله عليه وسلم عندما سؤل ما أفضل الأعمال يا رسول الله؟ فكانت إجابته تختلف من شخص لأخر فكان يقول للبعض: الإيمان بالله تعالى وللبعض: الصلاة لوقتها، والآخرين بر الوالدين وهكذا..، لأنه يعطي كل إنسان ما هو أكثر حاجة إليه، فأحدهم يقول للرسول صلى الله عليه وسلم أوصني ما أفضل عمل يدخلني الجنة، فكان يقول للبعض أوصل رحمك، وآخر يقول له لا تغضب…، من أجل هذا ينبغي أن يكون الداعية مع من يعلمه كالطبيب مع المريض، يعطيه ما يفيده في مداواة مرضه.
- الكاتب:
د. يوسف القرضاوي - التصنيف:
المركز الإعلامي