من الملاحظ أن الجانب الروحي من حياة الإنسان لم يحظ في الحضارة المعاصرة إلا بالقليل جداً من العناية. وعلى العكس من ذلك تماماً بالغت في تقوية الغريزة الجنسية والشهوة الحيوانية في الإنسان إلى حد أفقده توازنه وإنسانيته.
إن الخطر الذي يهدد الإنسانية في العصـر الحاضر ليس في أن هذه الحضارة - كما يقال - أطلقت الحرية للفكر الإنساني في البحث عن الحقيقة، بل إن الخطر يأتي - على العكس مما يقال - من كونها تضعف الفكر الإنساني بوضعه تحت ضغط الشهوات الحيوانية القاتلة، والحضارة المعاصـرة تفننت وبالغت في ابتكار وسائل تقوية الغرائز الحيوانية في الإنسان، انظر إلى كتب الروايات، إنها مليئة بالخلاعة والفاحشة، وانظر إلى الأفلام والأشـرطة المثيرة للشهوة الجنسية، والمشحونة بصور الاتصال والعلاقات الجنسية، وانظر إلى أماكن اللهو الليلية، إنها مليئة بألوان الاستعراض وفنون الرقص التي أعدت قصداً لإثارة الشهوة.
وقد أصبحت هذه الفنون التي تقام في الحانات والنوادي والسهرات الليلية أكثر أساليب التسلية الشعبية انتشاراً، وأسهمت دور تصميم الأزياء النسائية بدور كبير في تأجيج نار الشهوة الجنسية بما تصممه من الأزياء المثيرة.
ولقطف ثمار كل هذه الوسائل المثيرة أبيحت الفرص الكاملة لاختلاط الجنسين بلا قيود.
وفي هذا الجو المشحون بالإثارة الجنسية المستمرة أصبح من المستحيل تماماً على عدد كبير من الناس أن يستخدموا طاقاتهم الفكرية والمعنوية بحرية وهدوء، وأن يستجيبوا لفطرتهم التي فطرهم الله عليها باعتدال وتوازن.
نعم إنه صار من المستحيل على العدد الكثير من الذين فتحوا أعينهم على هذا الجو غير الصحي الذي أنشأته الحضارة المعاصـرة أن يفكروا بحرية وهدوء وتركيز، ومن ثم صار فقدان التوازن في حياة الإنسان المعاصـر بارزاً للعيان.
وقد حذر من خطورة هذه الحضارة المعاصـرة عدد من مفكري الغرب أنفسهم. يقول المفكر الفرنسي دوبروكَبي: إن الخطر يكمن في حضارة موغلة في المادية.. فعن هذه الحضارة ذاتها سينتج فقدان التوازن، إذا كانت تربية الأرواح الموازية لطغيان المادية عاجزة عن إيجاد التوازن الضروري"(الإسلام اختيارنا، ص: 10).
ويقول لورد سنيل: لقد بنينا بناء متناسقاً باعتبار مظهره الخارجي (يشير إلى المنجزات المادية للحضارة المعاصـرة) لكن أهملنا المطلب الجوهري لعنصـر فطري في حياتنا (يقصد الروح) لقد صممنا وزينا ونظفنا الكأس من الخارج، لكن داخله مليء بالعفن.. إننا نستخدم معارفنا المتزايدة في رفاهية الجسد، لكن تركنا الروح في فقر وهزال.
أما الإسلام فإنه يسعى إلى تحقيق التوازن في حياة الإنسان بين هذين العنصـرين، بين الباطن والظاهر، بين الروح والجسد. وتعاليمه تستجيب للحاجات الروحية للإنسان إلى تزكية نفسه وإلى إصلاح حياته المادية الفردية والجماعية معا ً"(الإسلام اختيارنا، ص: 11).
الإسلام منهج التوازن:
من الغايات العليا للإسلام إيجاد التوازن في نفس الفرد، وفي المجتمع، بقدر ما يكون هذا في حدود الإمكان. وبهذا التوازن يمتاز الإسلام عن الديانات التي اشتملت على الكثير من التعاليم التي تخالف الطبائع البشـرية، كما يمتاز عن الاتجاهات الفلسفية الانحلالية التي تريد الانحدار بالإنسان إلى مستوى الحيوان.
وحين يوجه الإسلام العناية إلى التربية الروحية وتزكية النفس بما يفرضه من العبادات، ويضعه من الحدود والقيود لضبط الشهوات وتنظيم الاستجابة الفطرية لحاجاتها، لا يفعل ذلك إلا لحفظ كيان الفرد وسلامته ومصلحته.
ولا يكتفي الإسلام في تهذيب الغرائز والشهوات بوضع القيود والحدود، بل يعمل على تقوية الإرادة والعزيمة في الإنسان، ويقوي في حسه الوازع الأخلاقي والديني المنبثق من تقوى الله. ويفتح أمامه ميادين العمل الصالح، ويرغبه في الإكثار منه بالثواب العظيم. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ...} (التوبة: 105). ويرفع العمل الصالح إلى مرتبة العبادة.
إلى جانب كل ذلك يفرض الإسلام أنواعاً من العبادات لتزكية النفس وحفظها من سورة الشهوات. فالصلاة مثلاً تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام وُجَاء للشباب الذي لا يستطيع الزواج، وهو أغضّ للبصـر وأحصن للفرج، والزكاة تطهر النفس من رذيلة البخل وتعودها العطاء.
نستخلص مما تقدم أن فلاح الإنسان في حياته الأولى والآخرة متوقف على تزكية نفسه وتهذيب انفعالاته وميوله وغرائزه الفطرية، وأن السبيل إلى هذه التزكية واحد لا ثاني له هو التربية الروحية والمجاهدة ومداومة العبادة والاعتصام بمنهج الله والاستقامة عليه.
فالخالق سبحانه هو الخبير بأسـرار النفس الإنسانية، وهو العليم بما يصلح لتزكيتها وتطهيرها. .. و العبادات التي فرضها الإسلام من أهم مقاصدها تطهير الإنسان من دنس المعاصي. فهي مشـروعة ومفروضة لمصلحة الإنسان، وهي من فضل الله عليه. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (النور: 21). أي: ولولا فَضْلُ الله على المؤمنين ورحمته بهم ما طَهُرَ منهم أحد أبدًا مِن دنس ذنبه، ولكن الله - بفضله - يطهر من يشاء. والله سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم وأفعالكم. (التفسير الميسر: 1ص 592). والله - سبحانه وتعالى - غني عن العالمين.
ورسوله صلى الله عليه وسلم، الذي يعلم أن تزكية الإنسان من فضل الله، كان يدعو ويقول: "اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها".
- الكاتب:
المختار الإسلامي(بتصرف يسير جدا). - التصنيف:
أمراض القلوب