والرسالتان معروفتان لدى الباحثين الغربيين معرفة جيدة، فقد نشرتا في الغرب وترجمتا إلى أكثر من لغة أوروبية، ولكنهما – للأسف - على أهميتهما الكبيرة لا يكاد يعرفهما إلا نفر يسير جدا من الباحثين المسلمين المتخصصين، فضلا عمن سواهم.
ومما جاء في رسالة الراهب الفرنسي من الدعوة الصريحة لهذا الأمير بالدخول في النصرانية قوله: "... إلى الصديق الحبيب الذي نؤمله أن يكون خليلا مدانيا، المقتدر بالله على دولة هذه الدنيا، الملك الشريف، من الراهب أحقر الرهبان، الراغب في الإنابة والإيمان بالمسيح يسوع، ابن الله سيدنا!!!.. لما انتهى إلينا أيها الأمير العزيز أمرك الرفيع في الدنيا وبصيرتك في تبيين أحوالها المتغيرة، رأينا أن نراسلك وندعوك، لتؤثر الملك الدائم على الملك الزائل الفاني... وقد كان فيما سلف من ذنوب إبليس وتضليله للعباد ما يلقيه العذاب الأليم يوم القيامة من الله سيدنا يسوع المسيح، وقد ضاعف تلك الذنوب بما أوبق فيه هذه الأمم العظيمة.. فاعتبر ـ أيها الملك الشريف ولا تؤثر شيئا على نجاة نفسك يوم الحكم والجزاء، فإنا مخلصون في خدمة أمورك، ومسارعون إلى تفديتك بنفوسنا... وإن لم يظهر لك - يا أيها الحبيب - مراجعتنا بجوابك على ما تضمنه كتابك لآفات الكتب، فأودع ذلك إخواننا هؤلاء وأطلعهم على سرك، وما يتمثل في نفسك، ونحن نضرع إلى سيدنا يسوع المسيح أن يتولى رعايتك، ويتكفل سلامتك، ويهديك إلى دينه المقدس، ويسعدنا بالإيمان الصحيح به آمين"
فجاء جواب الفقيه القاضي الجليل الفاضل أبي الوليد الباجي رحمه الله على هذه الرسالة ببيان ضعف موضوعها ودحض مفترياتها: حيث قال: "بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على محمد وعلى آله وسلم، العزة لله، والصلاة على رسوله.. تصفحت أيها الراهب الكتاب الوارد من قبلك، وما متت به من مودتك، وأظهرته من نصيحتك، وأبديته من طويتك، فقبلنا مودتك لما بلغنا من مكانتك عند أهل ملتك، واتصل بنا من جميل إرادتك، ونبهتنا لعمر الله بنصيحتك، على ما يلزمنا من ذلك لك، ولولا ما كنا نعتقد من بعد مستقرك، وتعذر وصول كتابنا إليك لكنا أحرياء أن نأتي من ذلك ما يلزم، ونسلك منه السبيل الأوجب، ولكنت - عندنا - جديرا بعرض الحق عليك وإيصاله إليك، فقد قرر لدينا من وصل من رسلك، وأهل ملتك ما تظهره من حرصك على الخير، ورغبتك في الحق، مما قوى رجاءنا في قبولك له، وإقبالك عليه، وأخذك عليه، وأخذك به، وإنابتك إليه... ولما تكررت علينا رسائلك ووسائلك تعينت علينا مفاوضتك، فيما رضيناه من مسألتك، ومعارضتك فيما اخترناه من منهجك في النصح، الذي يجري إليه أهل الفضل، وأمرنا الله به على ألسنة الرسل، وكففنا عن معارضتك على ما استقبحناه من خطابك، وسخطناه من كتابك، من سب الرسل الكرام، والأنبياء المعظمين - عليهم السلام -، وانحرفنا عن ذلك إلى أن نحذرك وننذرك ونعذرك فيما لم يبلغك علمه، ولم يتحقق لديك حكمه، ونبالغ في الرفق بك، والتبيين لك على منهج الخطب والرسائل، لا على طريق البراهين والدلائل، مساعدة لك على مذهبك في كتابك، وموافقة لك في مقصدك، فعسى أن يكون أقرب إلى استمالتك، وأبلغ في معارضتك ومعالجتك..
ولوددنا أن تصير إلينا فنبلغ الغرض من تعليمك، ونتمكن من تفهيمك، ونبين لك من تحقيق الكلام وتحريره، وتفصيله وتوجيهه، وترتيب الأدلة ومقتضاها، وإحكام البراهين ومنتهاها، ما يزيل كل سخيفة من نفسك، ويطهر من دنسها قلبك، فتعاين الحق جليا واضحا، والدين قويا لائحا... والله نسأل أن يهديك ويهدي بك من قبلك فتفوز بأجورهم، وتكون سببا إلى استنقاذهم، فأنت فيما بلغنا مطاع فيهم. والسلام على من اتبع الهدى"
لقد كان أبوالوليد الباجي من العلماء والفقهاء البارزين في الأندلس، بذل جهودا كبيرة لتوحيد صفوف المسلمين في الأندلس ضد النصارى الإسبان، فطاف مدن الأندلس وقواعده لجمع شتات الأمة الممزق. وكان عميق الفهم، صاحب حجة، يقيم الحجة على خصومه من الفقهاء، فكان صادقا في أقواله وأفعاله، وفي دعوته وفي عرضها. واستطاع أن يستوعب المناهج التي درسها سواء في بلاده الأندلس أو في رحلته إلى المشرق من فقه وحديث ولغة وعلم الكلام وغيرها، حتى تأهل ليكون داعية لحمل رسالة التوحيد والجهاد في سبيل الله. وكان تردده بشرق الأندلس وما بين سرقسطة وبلنسية ومرسية ودانية؛ فحدث يوما أثناء وجوده في سرقسطة أيام حكم المقتدر أحمد بن هود (حكمه ما بين: 438هـ و474هـ) أن جاءت رسالة من أحد عمالقة الرهبان الفرنسيين يدعو فيها هذا الأمير إلى الدخول في الديانة المسيحية والانسلاخ عن العقيدة الإسلامية، فكتب الباجي رسالة على لسانه رد فيها على هذا الراهب؛ وسلك فيها طريق الاعتدال، وطرق الحجة بالحجة، وأعاد الداعي مدعوا، وبقي الأمير وإمارته سرقسطة على دين الإسلام.
وأول ما يلاحظ على مجمل هذه الرسالة كما يقول د. الشرقاوي محقق الرسالتين: «بيد أن رسالة الباجي تظهر - في تقديري - رؤية إسلامية صحيحة وعميقة، لما عليه العقيدة النصرانية من اضطراب وتناقض ووهاء، كما أنها تبرز مسؤولية القاضي الباجي في الدعوة إلى الله تعالى بين غير المسلمين، ووعيه بالطريق الأرشد إلى ذلك. فالقضية - عنده - لم تكن مجرد تدبيج جواب على رسالة راهب فرنسي بعث بها – مع رسولين - إلى المقتدر بالله حاكم سرقسطة، أقصى ما يؤمله الباجي من ورائه أن يرضى المقتدر بالله عنه، لكن طموحه السديد كان أبعد من ذلك وأعظم؛ إذ كان يروم تعريف راهب فرنسا وكبير رجالات الكنيسة فيها بمحاسن الإسلام، وما عليه النصرانية - بعد التحريف - من مجافاة للعقل والمنطق، فضلا عن مصادمتها للفطرة السليمة بأسلوب قويم حكيم. وإن كل فقرة في الرسالة لتؤكد هذا المعنى وتعمقه"
كما أن الموضوع الأكثر إثارة في هذه الرسالة هو محاولة الباجي الجواب على الراهب الفرنسي في مسائل الاعتقاد، وخاصة فيما يتعلق بنبي الله عيسى - عليه السلام - الذي يعتقدون ببنوته - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - يقول د. عبدالواحد العسري: " سبق أن ذهبنا إلى أن الخلاف الأساسي الذي تدور عليه جميع المجادلات الإسلامية النصرانية يكمن في التصورات المختلفة للنصارى وللمسلمين لله وللنبوة. ذلك هو ما استقطب مجموع الدعاوى والاعتراضات التي دارت بالمجلس الخامس الذي ناظر فيه الأنصاري، رئيس كتبة الملك وحاجبه"، في إشارة إلى مناظرة أخرى في نفس المجال.
ولقد نقض الباجي دعوى الراهب دون أن يعترض على لفظ رسالته ولا على صحة نقلها. كما عمل على منعها بإبطال ما استلزم من ألفاظها مناظره من تصورات تشبيهية وتحييزية لله ولصفاته التي رام بنسبتها للإسلام نسف دعوى هذا الدين بخصوص التوحيد والتنزيه اللذين يقوم عليهما. وبذلك استطاع أبوالوليد الباجي أن يحقق هدفه من مجادلته للنصارى التي اضطر إليها، باعتراضه على دعاواهم ومنعها وإبطالها، فأفحمهم وانتصر عليهم، معتمدا في كل ذلك بعض قواعد المناظرة المنطقية والتداولية والأخلاقية.
وهكذا أبطل الباجي دعوة النصارى المبطلين لدينه والمنكرين لنبوة نبيه، بالاستناد إلى كتبهم المقدسة على دعواهم. واتخذ نفسه في مناظرته أدوار المدعي المعلل والمجيب للدفاع عن تصور اعتقاد المسلمين لله تعالى ولنبوة نبيه محمد " صلى الله عليه وسلم" ، لذلك بادر في مناظرته إلى القول: «وما من نحلة ولا ملة إلا وهي تزعم أن نفوسها نيرة بما تعلمه، منشرحة بما تعتقده، وكذلك تقول البراهمة الذين يكذبون الرسل، والدهرية الذين يدعون الأزل، والفلاسفة القائلون بقدم العالم، والثنوية المثبتون لخلق النور والظلام، فما أحد من هذه الفرق إلا وهو يدعي أن نفسه أسكن إلى ما تعتقده، وأوثق بما تنتحله، وأنور بما يزعم أنه يعلمه من نفوس مثبتي الرسل، ومتبعي الكتب. لكن وضع الكلام ونشره، وتمييزه ووصفه يعلي الحق ويثبته، ويدحض الباطل ويمحقه"
وأهم خصلة في جواب الباجي هذا التزامه بشروط المناظرة التي وضحناها من قبل، والتي منها التزام المتناظرين بالأدب والأخلاق والجدال بالتي هي أحسن، يقول د. حبنكة الميداني: "فالمسلم مطالب بأن يلتزم في مجادلته لإثبات الحق الذي يؤمن به وإقناع الناس به، الخطة التي هي أحسن من كل خطة يمكن أن يتخذها الناس في مجادلتهم. لذلك كان من أخلاق المسلم وآدابه مع خصوم دينه ومخالفي عقيدته؛ فضلا عن إخوانه المؤمنين أنه لا يسلك مسالك السب والشتم والطعن واللعن والهمز واللمز والهزء والسخرية والفحش والبذاءة".
وهذا ما نلحظه في الأسلوب الذي اعتمده الباجي في رسالته في الرد على راهب فرنسا؛ فقد كان شديد الأدب حافظا لسانه من الزلل متجنبا الاستهزاء والسخرية.. ولاشك أن في هذا الجواب ما يدفعنا إلى تجلي دور هذه المناظرات في إحقاق الحق ودفع الخصوم. مما يضطرنا إلى البحث عن المزيد من أصول هذه المناظرات لتتبع ردود المسلمين على نصارى الأندلس في محاورتهم لهم في باب الاعتقادات من أصول الدين، واستجلائه ووضعه في الحسبان أثناء المناظرات الفكرية التي تدار اليوم، متتبعين روح التسامح التي طبعت نقاشهم ذلك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.