في شهر رجب من سنة التاسعة من الهجرة النبوية كانت غزوة تبوك، والتي سُميت كذلك بغزوة العُسْرة، لوقوعها في زمان عُسْرَةٍ من الناس، وشدةٍ في الحر، وبُعْدٍ في المكان، وقلةٍ في المال والدواب، وقد ورد هذا الاسم ـ العسرة ـ في القرآن الكريم حينما تحدث عن هذه الغزوة، قال الله تعالى: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 117)، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحُملان لهم (ما يركبون عليه ويحملهم)، إذ هُم معه في جيش العُسْرة، وهي غزوة تبوك) رواه البخاري. قال ابن حجر: "وهي آخِرُ غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمِّها، وكانت مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فُضِحوا، وحكاية الثلاثة الذين خُلِّفوا، فضلاً عن أخبار المسير والحصار والمشقة التي كانت فيها، والأحداث التي صاحبتها".
ولمَّا كانت هذه الغزوة في زمان عُسْرَةٍ من الناس، وجدْبٍ وفقرٍ في البلاد، حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على البذل والإنفاق فيها فقال: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) رواه البخاري. وقد استجاب الصحابة رضوان الله عليهم لنداء النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب الأغنياء من الصحابة أروع الأمثلة في البذل والعطاء وعلى رأسهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وجاءت النساء بما قدَرْن عليه من صدقات وحليّ، ووضعنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وشارك كذلك الفقراء من الصحابة بقدر ما يستطيعون، حتى أن أبا عقيل رضي الله عنه جاء بنصف صاع من تمر، مشاركاً وملبياً لنداء النبي صلى الله عليه وسلم في تجهيز جيش العسرة، قال ابن حجر: "عن أبي مسعود قال: لما أُمِرْنا بالصدقة (في تبوك) كنا نتحامل (يحمل بعضنا لبعض)، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه".. وبقِي مَن المسلمين من لم يجد شيئًا يُجاهد عليه ولا ينفقه، فتخلفوا عن الجهاد وعجزوا عن الإنفاق، فحزنوا لذلك حزنا شديدا، وكادت أنفُسُهم أن تخرج حسرةً على تخلفهم وعدم استطاعتِهم المشاركة في هذه الغزوة، وقد وصفهم الله عز وجل بقوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}(التوبة: 92).
أين المتصدق هذه الليلة؟ :
عُلْبَة بن زيد رضي الله عنه من الصحابة الذين عجزوا عن الإنفاق والمشاركة في الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فتصدَّق رضي الله عنه بعفوه عمن ظلمه أو أساء إليه في بدنه أو نفسه أو عِرْضِه، وقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله عز وجل قد قبِل صدقته.. وهذا الموقف لِعُلبَة رضي الله عنه رواه البيهقي في دلائل النبوة وصححه الألباني، وابن هشام وابن كثير في السيرة النبوية، وابن القيم في زاد المعاد، وفيه: "وأما علبة بن زيد فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى، وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تجعل في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين المتصدق هذه الليلة؟ فلم يقم أحد، ثم قال: أين المتصدق؟ فليقم، فقام إليه فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر فو الذي نفس محمد بيده لقد كُتِبَت في الزكاة المتقبلة".
وفي رواية: "حَضَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّدقة، فجاء كلّ رجُلٍ بِطَاقَتِه، فقال عُلْبَة بن زيْد: اللَّهُمَّ إنّه ليس عندي إلا وِسَادَة حشْوُهَا لِيفٌ ودَلْوٌ أَسْتقي به، اللَّهُمَّ إنِّي أتَصَدَّق بعِرْضِي على مَنْ ناله مِنْ خَلْقك". وفي الإصابة لابن حجر: قال علبة رضي الله عنه: "ولكنى أتصدق بعِرْضي، من آذانى أو شتمنى، أو لمزنى، فهو له حِلٌّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قُبِلت صدقتك". وقال أبو نعيم في "معرفة الصحابة" في حديثه عن علبة بن زيد رضي الله عنه: "عُلبة بن زَيْدٍ الأنصاريّ الحارثيّ أبو مُحمد، لَهُ صُحْبة، الْمُتَصَدِّق بِعِرْضه على الناس". ومعنى التصدق بعرضه على الناس: أي مسامحته لكل من آذاه أو تكلم عنه بسوء.
ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك واقترب من المدينة المنورة بَشَّر المعذورين الذين حسنت وخلصت نياتهم، ولم يستطيعوا الخروج للجهاد لفقر أو مرض، ومنهم علبة بن زيد رضي الله عنه، فقال: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر) رواه البخاري. قال النووي: "وفي هذا الحديث فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات فعرض له عذر منعه حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمنى كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه".
على طريق الخير والبذل والعطاء سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا الأمثلة الحية والعملية للأمة، بما بذلوا من دمائهم وأموالهم وما يملكون لدينهم، ولهم في ذلك مواقف ومفاخر، في عطائهم وتضحياتهم لنصرة الإسلام، فإذا عجزوا عن بذل المال والنفس، تصدقوا بما يملكون مما في أيديهم ولو كان شِق تمرة، ثم لما انتهى ما باليد، تصدقوا بالعفو عمّن ظلمهم وأساء إليهم، وما فعله علبة بن زيد رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أبشر، فو الذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة) شاهد على ذلك.
وقد قال الله تعالى حاثاً على العفو والصفح عن الناس، والإحسان إليهم: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(آل عمران:134)، وقال سبحانه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}(الشُّورى:40)، ومن المعلوم أن أنواع الصدقة التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، ومنها: كف الأذى عن الناس باليد أو باللسان، والكلمة الطيبة، وشربة من الماء يسقيها، وإماطة الأذى عن الطريق، والإنفاق على الأهل والأولاد، والتهليلة والتكبيرة، والتحميدة والتسبيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ومن أنواع الصدقات كذلك: ما فعله عُلبةُ بن زيد رضي الله عنه في غزوة تبوك بالتصدق بعفوه عمن ظلمه أو أساء إليه.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من تبوك إلى الوفاة