حين يتردد الحديث عن الإعلام الغربي، تتراءى للأذهان تلك الحرية والمصداقية والتفاني في الإتقان والتطوير وذروة السبق الصحفي! إلا أن التجارب في معترك حرب تقوم هنا، وأخرى تخمد هناك، وتدافع الأحداث التي تكشف الحقائق والمفاجآت من عمق بلاد الغرب ومن خارجها، يبدد تلك الصورة الأولى لتحل محلها الدقة في الحكم والنقد الثاقب للإعلام الغربي. كلما اقتربت حقيقة دامغة من محيط هذه الرؤيا، لابد أن يقترب معها التشخيص الحقيقي لحالة الإعلام الغربي، والتي تؤكد بكل وعي وإدراك أن الإعلام الغربي ليس إلا آلة حرب وسياسة في أيد أرباب الحرب والسياسة الغربية.
توصيف الإعلام الغربي
لقد أجبرت ساحات الاصطدام بواقع الحقيقة الإعلام الغربي ليكشف عن سرعته في الإيقاع، وسطحيته في تناول الموضوعات، وتفاديه الغوص في الجوانب العميقة للقضايا، أو موضوعات المناقشة. يعتمد على الشكل والصورة والأداء ليحدد المفاهيم التعريفية والسياسية والثقافية والاجتماعية المعقدة فتؤثر في خلق وتكوين الصور العامة المسيطرة في المجتمع فارضة التنميط العام للقضايا.
الإعلام الغربي يخاطب شعبه بلغة التميّز والذكاء والتحرر والسبق لكل الأمم، وينعت غيره من الشعوب وعلى رأسها المسلمة بالأمية والتخلف والرجعية. ويستعين في ذلك بالمثقفين والمتعلمين لبث الأفكار المضللة بخلفية مضللة، حين يجعل النقد حقًا وواجبًا، ونزع القيود والأغلال في بسط الرؤى المختلفة بين المتناظرين من سمات الحرية في الرأي والارتقاء في فكر الإنسانية والبشر. لكنه يوظفها في الأخير لإعادة صوغ العقليات والمفاهيم وطرائق التحليل والنظر للأشياء بشكل يبعد عن العدالة والأنصاف وإن كان يلبس لبوسها.
جرائم إسرائيل توثق نفاق الإعلام الغربي
ولا زالت جموع المسلمين تستنكر تلك الطريقة الاستفزازية في الترويج لجرائم إسرائيل وتصويرها أمام العالم في صورة المظلومة المعتدى عليها، بينما تأبى وسائل الإعلام المحايدة بالصوت والصورة إلا أن تؤكد إجرامها مع سبق الإصرار والترصد. فكم من حدث مرّ في أرض فلسطين سالت فيه الدماء البريئة وصعدت فيه صرخات الاستغاثة وتكررت فيه مأساة الثكالى والأيتام نقله الإعلام الغربي موجهًا أصابع الاتهام للضحية وممجدًا صنيع الجلاد. إنه الإجرام الإعلامي الغربي الذي صنع خصيصا لمساندة دولة إسرائيل التي زرعت في قلب الأمة الإسلامية بغفلة منا حين ابتعدنا عن ديننا ولهثنا خلف خلافاتنا وانشغلنا بالزائل فزالت معه آمال هممنا.
كيف يصل الإعلام الغربي بغيته؟
من يرجع إلى الخلف قليلا ليتتبع الطريقة التي تعمل بها الآلة الإعلامية الغربية سيجد أن الإعلام يعتمد على الإعلانات التجارية وبيع الصور والبرامج واستهداف الشريحة المؤثرة والغالبة في مجتمعهم والتي تنجذب بقوة إلى السرعة والإثارة والأداء المبهر. إن الإعلام الغربي تحول من خانة نقل المعلومات إلى خانة صناعة المعلومات، ليصل إلى درجة الاحتراف-مع الوقت-في التأثير على الناس وإعادة تشكيل المواقف والآراء.
وما يثنيه عليه المعجبين به وما يضربونه من أمثلة حول قوته وحريته وإنسانيته في الواقع هو أساس بقاء الإعلام الغربي، فلولا مساحة الحرية التي يرفع شعارها لما كان له تأثير، إنها المساحة التي يتم التلاعب بها وفق سياسة ماكرة تظهر الحرية تارة وتقمعها أخرى حسب حاجة المخرج. ولا شك أن الحرية في الطرح والاحترافية في طرق صناعة الخبر وتقديمه للناس، والقالب التقني المتطور الذي يعرض فيه وسرعة الأداء توسع الشريحة المتأثرة بهذا الإعلام، وهذا ما عمد له الإعلام الغربي بقوة.
الإعلام الغربي وقضايا المسلمين
حين يشاهد الناس أن مساحة الحرية في الإعلام الغربي متسعة سيلجؤون إليه على قناعة بأن معلوماته ستكون أكثر صحة ودقة وحيادية. في حين أن أي قراءة للمواضيع التي تتناول العالم العربي والواقع الإسلامي تكشف زيف البناء وتخبط الكتاب والمناقشين، وتفضح بُعدهم عن واقع البلاد المسلمة، بل واستخفافهم في مرات كثيرة بالمسلمين وتصويرهم للقضايا بأبشع صورة وتهويل البسيط وتبسيط المهول!
قيد السياسة الخارجية
وكون الإعلام الغربي يؤمّن مساحةً للحرية وسقفًا مرموقًا لقول الحقيقة أو بعضها، ويضفي بعض الحيادية والموضوعية في طرح المواضيع لا يعني استقلاليته، فهذه الحرية تنعدم تماما حين يتعلق الأمر بالتأثير على الرأي العام في نقاط ساخنة تتصل مباشرة بالسياسة الخارجية، خاصة التي تمس المصالح في بلاد المسلمين، ولهذا فشعوبهم تتمتع بتلك المصداقية في الشؤون الداخلية بينما تحرمها وهي لا تدري وقد تدري، في الشؤون الخارجية.
فالحكومات الغربية تحرص على سياسة الانفتاح والفضفضة والنقد المفتوح في إعلامها الذي يتناول القضايا الداخلية والخاصة بشعوبها، ولكن حين يتعلق الأمر بالمسلمين والسياسات الخارجية فلابد من تحييد الخبر وتكميم الأفواه والحد من المواضيع وحجز المعلومات. وبهذا الشكل لا يشك متابع أن القضية تفتقد المصداقية، لأنه يعتمد على مصداقية هذا الإعلام في غير موضع. مثال على ذلك خبر مقتل ثلاثة طلبة مسلمين في منزلهم في نورث كارولاينا في أمريكا يوم الثلاثاء 10 شباط/فبراير. الذي أعقب إهماله في الإعلام الغربي استهجان المئات على شبكات التواصل الاجتماعي، الذين نددوا بهذا الغياب الملحوظ لأية أخبار عن الجريمة في مختلف وسائل الإعلام الغربية في حين كان هذا التكتيم يخدم السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
إن الصحافة الغربية لا تتردد في استخدام الأسلوب الاستخباري للترويج لموقفها السياسي، وللابتزاز السياسي في آن، وقد تكرر هذا كثيرا خلال حروبها في بلاد المسلمين كأفغانستان والعراق وفلسطين وسوريا. وبالتالي، تستدرج اتهامها بأنها ليست صحافة حرّة، أو مستقلة، كما تريد من صحافة العالم الآخر.
مواجهة الحقيقة
وللأسف فإن حالة الإعلام العربي أسوأ لافتقاده الحرية اللازمة لتناول واقع البلاد المسلمة، مما يدفع المسلمين إلى تتبع الإعلام الغربي نظرًا إلى ضيق مساحة الحرية والرقابة المفروضة على المعلومات والأخبار في بلدانهم.
والحقيقة التي لابد أن يعيها المسلمون هي أن الإعلام الغربي الذي يتستر بالمصداقية والخبرة والإمكانات الجذابة، ليس منصفًا بالمعنى المطلق وليس مهنيًا وليس متحررًا. هذه أصبحت ثوابت اليوم علينا ترسيخها في أذهاننا. إنما الإعلام هو لصالح السياسات والمصالح، التي لا تخرج عن طاعة قرارات الدولة العليا، فتقدم هذا الخبر، وتمحو أثر ذلك الخبر، وتشوه الحقيقة في هذا، وتركز بسطحية على ذاك، وتنتقد بقوة هذا، وتكمم أي صوت لرد نقد بالذات! وهكذا..
فالحرية إذا مقيدة في كل مكان حين تتصل بالمصالح أو تهدد أمن الدول وسياساتها العليا. وأبلغ ما يصف الإعلام اليوم مقولة القائد الألماني، جوزف غوبلز: "أعطني إعلاماً بلا ضمير، أُعطِك شعباً بلا وعي".
فأيها الناس تفرسوا ما تقرؤون وتخيّروا من أين تتثقفون وتُخبرون، فإن المياه تعكرت، وخير زاد الذهن في هذا الزمان الإبحار في مجاري الأنهار التي توصل للبحر، لا لمستنقعات الطين والوحل!