بعد أن فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في العام الثامن للهجرة النبوية، أقبلت إليه الوفود من كل مكان، وكان ضمن هذه الوفود: وفد نصارى نجران التي تقع جنوب مكة في اتجاه اليمن، وكان هذا الوفد مؤلفاً من ستين رجلا، بينهم العاقب وهو أميرهم الذين يمتثلون رأيه، والسيد وهو صاحب رحلتهم، وقد لبثوا في المدينة المنورة أياماً، فلما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، امتنعوا، وكثر جدالهم في عيسى عليه السلام، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، أي الدعوة إلى أن يبتهل كل طرف إلى الله عز وجل أن يجعل لعنته على الطرف الكاذب، فخافوا وأبوا.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: (جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعَنَنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أميناً ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال صلى الله عليه وسلم: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة) رواه البخاري. وذكر ابن سعد: "أن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك فأسلما، ثم انتشر الإسلام فيهم".
وفي وفد نصارى نجران نزل قول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(آل عمران59 :61). قال ابن كثير في تفسيره: "قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} أي: نحضرهم في حال المباهلة {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي: نلتعن {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي: منا أو منكم. وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران، أن النصارى حين قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة ردّاً عليهم".
وقال الواحدي : "قال المفسرون: قدِم وفد نجران، وكانوا ستين راكباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، فالعاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد إمامهم وصاحب رحلهم واسمه الأيْهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان شَرُف فيهم ودرس كتبهم حتى حَسُن علمه في دينهم، وكانت ملوك الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده. فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحِبَرات (ثياب يمانية)، جباب وأردية في جمال رجال الحارث بن كعب، يقول من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فصلوا إلى المشرق. فكلم السيد والعاقب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أسلما، فقالا: قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، منعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالا: إن لم يكن عيسى ولداً لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ألسـتم تعلمــون أنـه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى! قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فإن ربنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يُحدِث، قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّيَ كما يُغذَّى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويُحدِث؟ قالوا: بلى! قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا، فأنزل الله عز وجل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضعة وثمانين آيه منها".
وهذا الحوار بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نصارى نجران الذي ذكره الواحدي في "أسباب النزول" نقله كثير من العلماء في كتبهم من غير نكير، كابن تيمية في "الجواب الصحيح"، وابن حجر في كتابه "العُجَاب في بيان الأسباب"، وذكرته كذلك كثير من كتب التفسير والسِيَر، الأمر الذي يدل على قبول المعنى والمضمون، وأما ثبوت النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو محل تضعيف للعلماء.
المُبَاهَلة :
المباهلة في اللغة هي الملاعنة، أي الدعاء بإنزال اللعنة على الكاذب من المتلاعنَين، وهي مشروعة لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وقد روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: (ولما نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ}(آل عمران: 61) دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمةَ وحسناً وحُسَيناً فقال: اللهمَّ! هؤلاءِ أهلي).
قال ابن حجر: ".. وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة .. ومما عُرفَ بالتجربة أن من باهَل و كان مبطلاً لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة". ومع كلام ابن حجر رحمه الله، فليس من الضروري ظهور آية تدل على كذب المبطل وظلم الظالم، لأن الله تعالى كما يعاقِب فإنه يُمْهِل ويؤخر، ابتلاء واستدراجاً.
والمباهلة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم مع النصارى، بل هي له ولأمته من بعده مع النصارى وغيرهم، قال ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" في فوائد قصة نصارى نجران: " السُنَّة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله، ولم يقل: إن ذلك ليس لأمتك من بعدك".
ومع مشروعية المباهلة فإنه لا يُلجأ إليها إلا مع الجزم بصحة ما عليه المُباهِل وإخلاصه وصدقه، ويرجى في إقامتها حصول مصلحة للإسلام والمسلمين، ولا تكون انتصاراً للنفس، أو غضباً لغير الله، أو لأمر من أمور الدنيا، ونظراً لخطورة الدعوة إلى المباهلة أو قبول الدعوة إليها فالأولى عدم التوسع فيها.
السيرة النبوية تساعد على فهم كتاب الله عز وجل، لأن حياته وسيرته صلى الله عليه وسلم تطبيق للقرآن وعمل به، ومن خلال دراسة كتب التفسير للقرآن الكريم ـ ولاسيما أسباب النزول ـ، نجد الارتباط الوثيق بين نزول الكثير من الآيات القرآنية وبعض أحداث ووقائع السيرة النبوية، ومن ذلك ما حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نصارى نجران ونزول آية المباهلة.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من تبوك إلى الوفاة