الصلاة أعظم شعائر هذا الدين، وأظهر معالمه، وأنفع ذخائره.
هي آكد المفروضات، وأعظم الطاعات، وأجل القربات.
هي قرة العيون، ومفزع المحزون.
هي سرور المؤمن، وهناءة نفسه، وفرحة فؤاده..
وهي رأس الأمانة، وعمود الديانة.
من حافظ عليها فقد أظهر إيمانه وإسلامه، ومن استهان بها وضيعها فقد أبدى عصيانه وكفرانه، فهي الفارق بين المسلمين والكافرين، وهي آخر ما يبقى عند المرء من هذا الدين: [العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر](رواه مسلم).
وعن أبي أمامة الباهلي: قال سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: [لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة](رواه أحمد وابن حبان بسند جيد).
أول الطريق ترك الجماعات
ولئن كان ترك الصلاة والتفريط فيها وإخراجها عن وقتها من أكبر الكبائر، وأبين الجرائر.. فإن أول طريق التفريط والتهاون إنما يبدأ بترك صلاة الجماعة.
ولعمر الله.. لقد كثر المتخلفون عن الصلوات في المساجد، رجال قادرون أسوياء، وشباب يافعون أقوياء، يسمعون النداء ولكن لا يجيبون ولا هم يذكرون؛ حتى كادت المساجد أن تكون خاوية في الجماعات، وقاطعها الشباب حتى كادت العين تخطئ أي وجود لهم في الصلوات..
وهذا والله نذير شؤم، وناقوس خطر يدق على مستقبل هذه الأمة ومستقبل أبنائها، وهو علامة على الاستهانة بأمر الله الذي أمر الرجال وذكور المكلفين بصلاة الجماعة حيث ينادى بها في المساجد، قال تعالى: {وأقيموا وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين}، وأين يكون هؤلاء الراكعون؟ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}(النور:36، 37).
ولقد جاءت الأدلة الصحية الصريحة متكاثرة ومتضافرة على وجوب صلاة الجماعة على الرجال. كما جاءت تأمر بالجماعة وتحض عليها، وتبين فضلها، وتحذر أشد التحذير من تركها أو التهاون فيها.
ولقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ما يقطع عذر كل معتذر، وعلة كل متعلل، وتهاون كل متكاسل.
هذا عبد الله بن أم مكتوم رجل أعمى البصر، بعيد البيت، ليس له من يقوده.. يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! إني قد دبرت سني، ورق عظمي، وذهب بصري، وبيتي بعيد عن المسجد والمدينة مسبعة "كثيرة السباع والهوام"، وليس لي قائد يواتيني أو يقودني إلى المسجد. فهل تجد لي رخصة أن أصلي في البيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: أجب.. فإني لا أجد لك رخصة].
فإذا كان لا يجد رخصة لأعمى، بعيد البيت، لا يجد من يقوده.. فماذا عسى يقول المبصر القوي القادر القريب من المسجد؟
فلا رخصة لمتخلف عن الجماعة وهو قادر على الذهاب إليها؛ ذلك أنه لا صلاة لمن سمع النداء إلا حيث ينادى بها، ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر](رواه ابن ماجه وصححه الألباني). وقال صلى الله عليه وسلم: [لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد](رواه البيهقي والدارقطني). وهو وإن كان الأئمة ضعفوا سنده إلا أن معناه صحيح أكدته الأحاديث الأخرى.
وفي سنن أبي داود قال عليه الصلاة والسلام: [من سمع المناديَ بالصلاة فلم يمنعه من اتِّباعه عذر لم تُقبَل منه الصلاة التي صلّى، قيل: وما العذرُ يا رسول الله؟ قال: خوفٌ أو مرض] أخرجه أبو داود وغيره.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: "لأن يمتلئ أذنا ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع النداء ولا يجيب".
جفاء ونفاق
إن ترك الجماعات خيبة وشقاء، ونفاق وجفاء..
روى الإمام أحمد عن معاذ بن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله ينادي إلى الصلاة فلا يجيبه]. وفي رواية الطبراني قال عليه الصلاة والسلام: [بحسب المؤمن من الشقاء والخيبة أن يسمع المؤذن يثوب بالصلاة فلا يجيبه].
ومن فعل ذلك استحق لعنة الله؛ لما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لعنهم الله: ... وذكر منهم: [ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب].
إن التخلف عن الجماعة والتكاسل عنها علامة من علامات النفاق:
قال تعالى عن المنافقين: [ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى]، فهم يأتونها ولكن في كسل. وقال عنهم أيضا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}(النساء:142).
وروى أبو داود عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: [صلّى بنا رسول الله يومًا الصبحَ فقال: أشاهدٌ فلان؟ قلنا: نعم، ولم يشهَد الصلاة، ثم قال: أشاهد فلان؟ قلنا: نعم، ولم يشهد الصلاة، فقال: إنّ أثقلَ الصلاة على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاة الفجر، ولو تعلمون ما فيهما من الرغائب لأتيتموهما ولو حَبوًا].
ولقد هم رسول الله أن يحرق على أمثال هؤلاء المتخلفين بيوتهم؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: [لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثمّ آمر رجلاً يصلِّي بالناس، ثمّ أنطلِق معي برجال معهم حُزَم من حَطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار](متفق عليه).
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (مَن سرّه أن يلقى الله غدًا مسلِمًا فليحافِظ على هؤلاء الصلواتِ حيث يُنادَى بهنّ، فإنّ الله شرع لنبيكم سُننَ الهدى، وإنّهنّ من سُنن الهدى، ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنّةَ نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيّكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصفّ)(أخرجه مسلم).