يُمَثِّل عنصر الماء أحد أهمِّ العناصر البيئية التي تحتاجها جميع الكائنات الحيَّة على وجه الأرض، وبدأ استثمار الماء في المنهج الإسلامي من مرحلة تعريف الإنسان بالأهمية البالغة لهذا العنصر الحيوي، وكيف خلق الله سبحانه وتعالى منه كلَّ دابَّةٍ، وكيف لا يستطيع أحد أن يجعله سهل التناول عذب المذاق إلَّا الله تبارك وتعالى، ثُمَّ أتى الفقه الإسلامي فاستمدَّ من الكتاب والسُنَّة قواعده وتفريعاته؛ ليضع الحدود بين الماء، ويُفَرِّق بين أنواعه وحالاته، فيضع بهذا حدودًا فاصلة بين استثمار الماء وبين إفساده؛ وتأسيسًا على هذا وردت التعاليم الإسلامية الموصية باستثمار وتنمية الموارد المائية.
لقد اعتاد الإنسان أن ينسى كثيرًا من النعم التي تعوَّدها، والتي ما زالت منذ كان الكون مسخَّرة له ومذلَّلة وطائعة، ولا يكاد يشعر بفضل الله سبحانه وتعالى عليه فيها إلا أن تزول أو تتمرَّد، فعند الفيضان نتذكَّر أن الماء كان سهلاً رقيقًا، وعند الظمأ نتذكَّر أن الماء كان رِيًّا سلسبيلًا.
ذَكَّر الله عز وجل أقوامًا كفروا به بنعمه؛ ليُعِيدَ إليهم تلك الحقيقة التي غابت عنهم، فيقول عز وجل: ماذا لو غاص الماء في أعماق الأرض، من يأتيكم بماء يجري بين أيديكم؛ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30]؟!
إنَّ الوقوف أمام هذا المخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى (الماء) وتَأَمُّله والتَّفَكُّر فيه يُفضي إلى عجب؛ فإنَّ ذلك السائل الشفاف الذي ليس له لون ولا طعم ولا رائحة، هو من ضروريات حياة الإنسان الكبرى، التي لا تكون إلا به، وعلى الرغم من أنه لا لون ولا طعم ولا رائحة له فإن النفوس تُقْبِلُ عليه وتشتاق إليه وتظمأ له، وهو ما لا تفعله لغيره من ذوات الألوان الرائعة والطعوم الشهيَّة والروائح الذكيَّة، وهو العنصر الذي لا تزال البشريَّة تكتشف له مجالات استعمال جديدة في الطب والهندسة والكيمياء، مع أنَّها تستعمله منذ يومها الأول حتى صار عِلْمًا مستقلاً؛ هو علم (المياهيات: Hydrology.)
حديث القرآن الكريم عن الماء
إنَّ عَرْضَ القرآن الكريم للماء أبلغ كلام في أهميته وضرورته، فإنَّه جَلَّ وعلا ذكر لنا أنَّ كلَّ المخلوقات من الماء فقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وقال –أيضًا-: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]. قال بعض المفسرين: "المراد من قوله: {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. الحيوان فقط. وقال آخرون: بل يدخل فيه النبات والشجر؛ لأنه من الماء صار ناميًا، وصار فيه الرطوبة والخضرة، والنور والثمر. وهذا القول أليق بالمعنى المقصود".
"قال بعض العلماء: هو الماء المعروف؛ لأن الحيوانات إمَّا مخلوقة منه مباشرة كبعض الحيوانات التي تتخلَّق من الماء، وإما غير مباشرة؛ لأن النُّطَفَ من الأغذية، والأغذية كلَّها ناشئة عن الماء، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر، وكذلك هو في اللحوم والألبان والأسمان ونحوها؛ لأنه كله ناشئ بسبب الماء. وقال بعض أهل العلم: معنى خَلْقه كل حيوان من ماء، أنه كأنما خَلَقَه من الماء لفرط احتياجه إليه، وقلَّة صبره عنه".
قد أثبت علم الخلية أنَّ الماء هو المكون المهمُّ في تركيب مادتها، وهي وحدة البناء في تركيب الكائن الحي نباتًا كان أو حيوانًا، كما أثبت علم الكيمياء الحيويَّة أنَّ الماء لازمٌ لحدوث جميع التفاعلات والتحولات التي تتمُّ داخل أجسام الأحياء، فهو -الماء- إمَّا وسط، أو عامل مساعد، أو داخل في التفاعل، أو ناتج عنه.
وعلميًّا، فإنَّ الماء يمثل من 50% إلى 95% من وزن الكائن الحي؛ أي أن الماء يُمَثِّل –في أقلِّ الأحوال- نصف وزن الكائن الحي، ويبلغ الماء من وزن الإنسان نسبة 65%[5]، ولهذا تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن نعمته وقدرته في الماء وخَلْقِه وعمله، وكيف أنه حيوي لكل كائن حيٍّ، فقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 99]. وبالماء كانت حياة الأرض وحياة الكائنات عليها، وبغير الماء تموت الأرض وتموت الكائنات عليها، وتلك آية لكلِّ عاقل. قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وقال عز وجل:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].
وبالماء الواحد تخرج الثمرات المتنوِّعة المتكاثرة، تلك الحقيقة التي كرَّرها القرآن كثيرًا، وبعدَّة أساليب: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10، 11]، وقال سبحانه وتعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]، وقال عز وجل:{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 53، 54].
لهذا كان الاستنكار الإلهي شديدًا على مَنْ ينسى هذه الحقائق الواضحة والجلية؛ فيَنْسَى اللهَ أو يُشرك معه غيره، قال سبحانه وتعالى:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60].
طهارة الماء منة من الله عز وجل
ولقد امتنَّ الله سبحانه وتعالى على عباده بنعمة أخرى، وهي (طهوريَّة الماء)؛ وبها كان الماء مُنَظِّفًا ومزيلًا للأوساخ والملوِّثات والنجاسات والأقذار، فصلحت به حياة الإنسان، قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقال في حديثه لأهل بدر:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11].
ويروي أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً -قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: هُنَيَّةً- فَقُلْتُ (أبو هريرة): بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ".
وبهذا كان يدعو للميت فيقول –كما عند مسلم-: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ".
قال ابن حجر: "وحكمة العدول عن الماء الحارِّ إلى الثلج والبرد -مع أنَّ الحارَّ في العادة أبلغ في إزالة الوسخ- الإشارة إلى أن الثلج والبرد ماءان طاهران لم تمسهما الأيدي، ولم يمتهنهما الاستعمال، فكان ذكرهما آكد في هذا المقام". وكون البرد أكثر طهارة ونقاوة من المطر؛ ذلك أنه قد تجمَّد، فيقلُّ تأثُّره بتلوُّث الهواء أثناء نزوله.
وقد ورد ذكر الماء في كتاب الله ثلاثًا وستين مرَّةً، وذكر فيه عدَّة أوصاف للماء النقي الذي تتحقَّق فيه الحياة التي قرَّرها ربُّ العزة له، فذكر صفات: الطهور، المبارك، الغدق، الفرات، الثجاج.
ويستطيع الإنسان الحياة بدون طعام إلى مدَّة تبلغ الشهر، بينما لا يستطيع الحياة بدون الماء أكثر من أسبوع في الحدِّ الأقصى.
الماء حقٌّ لكلِّ مسلم، جعلت الشريعة الماء من الأشياء المشتركة بين المسلمين، التي يحرم أن يتملَّكها أحدٌّ بما يُسبِّب ضررًا وحرمانًا لغيره من المحتاجين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: الْمَاءِ، والكلأ، وَالنَّارِ".
فالمنهي عنه -كما هو الراجح من أقوال الفقهاء- هو محاولة الاستحواذ على ماء عامٍّ، أو على بئرٍ ثم مَنْع الناس من الانتفاع بها، أمَّا البئر المملوكة في الأرض المملوكة فلا شيء فيه، وكذلك الكلأ وهو العُشب الذي تأكل منه الأنعام والماشية، وكذلك النار أو الحطب، ولأهمية هذا العنصر الحيوي جاء في حرمان الناس منه وعيد شديد -لا سيما في حال الحاجة- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا فَأَخَذَهَا".
وفي رواية مسلم ذكر من يمنع الماء في الفلاة؛ أي: في الصحراء، وفي رواية أخرى عند البخاري: "فَيَقُولُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي؛ كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ".
قال النووي: "قيل: معنى: "لاَ يُكَلِّمُهُمْ". أي: لا يكلمهم تكليم أهل الخيرات، وبإظهار الرضى، بل بكلام أهل السخط والغضب. وقيل: المراد الإعراض عنهم. وقال جمهور المفسرين: لا يكلمهم كلامًا ينفعهم ويسرهم. وقيل: لا يُرسل إليهم الملائكة بالتحية. ومعنى: "لاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ". أي: يُعرض عنهم؛ ونظره سبحانه وتعالى لعباده رحمته ولطفه بهم. ومعنى: "لاَ يُزَكِّيهِمْ": لا يُطَهِّرهم من دنس ذنوبهم".
وقال المناوي: ومعنى: "عَلَى فَضْلِ مَاءٍ". أي: له ماءٌ فاضلٌ عن كفايته، فيمنعه من المسافر المضطر للماء لنفسه أو لحيوانٍ معه.
فهكذا قَدَّر الإسلام أهميَّة الماء بالنسبة لحياة البشر، وكانت رؤيته هذه للماء وأهميته مما ترتَّب عليه وضع القواعد والتعاليم والتشريعات لاستثماره وتنميته.