اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من الأربعين من عمره، وبدأت بعض مقدمات النبوة ومبشرات نزول الوحي تظهر في أفق حياته، وكان صلوات الله وسلامه عليه يرى هذه المقدمات والمبشرات وحده، وأحيانا يراها غيره معه، ومن هذه المقدمات والمبشرات: الرؤيا الصادقة، وحبه للخلوة، وتسليم الحجر عليه، ورؤيته لنور وضوء، قال الخطابي: "هذه الأمور التي كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بدئ بها من صدق الرؤيا، وحب العزلة عن الناس، والخلوة في غار حراء والتعبد فيه، ومواظبته عليه الليالي ذوات العدد، إنما هي أسباب ومقدمات أرهصت لنبوته وجعلت مبادئ لظهورها .. فجعلت هذه الأسباب مقدمات لما أرصد له من هذا الشأن، ليرتاض بها ويستعد لما نُدِبَ إليه، ثم جاءه التوفيق والتبشير".
الرؤيا الصادقة :
الرؤيا الصادقة ينشرح لها الصدر وتزكو بها الروح، ومن ثم كانت الرؤيا الصادقة ـ وتسمي أحيانا الرؤيا الصالحة ـ بداية إشراق شمس النبوة، وتوطئة لنزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول ما بُدِئ به من النبوة، فكان لا يرى رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح، ثم بدأ نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم. فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) رواه البخاري. وفي رواية مسلم: (الرؤيا الصادقة)، قال ابن حجر: "هذا ظاهر في أن الرؤيا الصادقة كانت قبل أن يُحَبّب إليه الخلاء، ويحتمل أن تكون لترتيب الأخبار، فيكون تحبيب الخلوة سابقا على الرؤيا الصادقة، والأول أظهر".
وقال النووي: "قال القاضي رحمه الله وغيره من العلماء: إنّما ابْتُدِئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها.. فبُدئ بأوّل خصال النّبوّة وتباشير الكرامة من صدق الرّؤيا". وقال ابن حجر في فتح الباري: "بدئ بالرؤيا الصادقة ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة.. المراد بفلق الصبح ضياؤه، وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه". وقال القاضي عياض: "وفيه أن الرؤيا الصادقة أحد خصال النبوَّة، وتباشير الكرامة، وجزء منها، وأول منازل الوحى، وأَنَّ رؤيا الأنبياء وحى، وحقٌّ صدقٌ، لا أضغاث فيها، ولا سبيل للشيطان إليها". وقال ابن أبي جمرة: "إنما شبهها بفلق الصبح دون غيره لأن شمس النبوة كانت الرؤيا مَبَادِيَ أنوارها، فما زال ذلك النور يتسع حتى أشرقت الشمس". وقال الألباني: "فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة".
والرؤيا الصادقة للمؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم مختلفة عن رؤيانا في أمرين مهمَّين، الأول: أن جميع رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحة، وليس فيها ما نسميه: أضغاث أحلام. ولذلك قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "رُؤْيَا الأنبياء وَحْي". وقال عبيد بن عمر: "رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}(الصَّافات:102). والثاني: رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم كلها واضحة المقصد، كما عبَّرت عنها عائشة رضي الله عنها بقولها: (مِثْل فَلَقِ الصُّبْح). وقال ابن حجر: "ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل لأنه محروس، بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنها قد يحضرها الشيطان".
حب النبي صلى الله عليه وسلم للخلوة :
لما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من الأربعين من عمره، وقبيل نزول الوحي عليه، حبَّب الله تعالى له الخلوة، فاتخذ غار حراء مكانا للخلوة والتفكر، وحراء جبل يقع فى الجانب الشمالى الغربى من مكة، قال ابن القيم في زاد المعاد ـ فيما ذكره عن عائشة رضي الله عنها ـ: "ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة, فجاء الملَك وهو بغار حراء, وكان يحب الخلوة فيه". وكان يتزود لخلوته لبعض ليالي الشهر، فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله يتزود قدر ذلك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:(فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثلَ فلَقِ الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغارِ حِراء، فيتحنَّث فيه - وهو التعبدُ - الليالي ذواتِ العددِ قبل أن ينزعَ إلى أهله، ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجةَ فيتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحقُّ وهو في غارِ حراء) رواه البخاري. قال ابن أبي جمرة فيما نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: "الحكمة في تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالتخلي في غار حراء أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة، فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت". ولا شك أن هذه الخلوة التي حُبِّبَت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء، كانت من تدبير الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لما ينتظره من أمر عظيم، وهو بداية نزول الوحي عليه.
تسليم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم :
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ـ أي حجر ـ ولا شجر، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله) رواه الترمذي وصححه الألباني. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم علىَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن) رواه مسلم. قال النووي: "فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة:74)". وقال السهيلي: "وهذا التسليم الأظهر فيه أن يكون حقيقة، وأن الله تعالى أنطقه إنطاقا كما خلق الحنين في الجذع".
سماع النبي صلى الله عليه وسلم صوتا ورؤيته ضوءا :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله عنها: (إني أرى ضوءاً وأسمع صوتاً، وإني أخشى أن يكون بي جنن، قالت: لم يكن الله ليفعل ذلك بك يا ابن عبد الله، ثم أتت ورقة بن نوفل فذكرت ذلك له فقال: إن يك صادقاً فإن هذا ناموس مثل ناموس موسى، فإن بُعِث وأنا حي فسأعززه (أوقره) وأنصره وأومن به) رواه أحمد. قال ابن كثير: "الناموس: صاحب سر الخير، أراد به جبريل عليه السلام، لأن الله تعالى خصه بالوحي والغيب اللذين لا يطلع عليهما غيره". وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة، يسمع الصوت، ويرى الضوء سبع سنين، ولا يرى شيئا، وثمان سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشراً) رواه مسلم.
قال القاضي عياض: "أي يسمع صوت الهاتف به من الملائكة، ويرى نور الملائكة، أو نور آيات الله، حتى رأى الملك بعينيه، وشافهه بوحي الله تعالى"، وقال الطيبي: "قوله: (ويرى الضوء سبع سنين) يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى من أمارات النبوة سبع سنين النبوة ضياء مجرداً، وما رأي معه ملكًا، وهو معنى قوله: (ولايرى شيئًا) أي سوى الضوء، قالوا: والحكمة في رؤية الضوء المجرد دون رؤية الملك حصول استئناسه أولا بالضوء المجرد، وذهاب روعه".
لقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ونزول الوحي عليه بمراحل من التهيئة والإعداد، وظهرت له الكثير من مقدمات ومبشرات النبوة، من الرؤيا الصادقة والصالحة التي كان يراها في نومه، وسلام الحجر عليه ووصفه له بالرسالة والنبوة، وحبه للخلوة، ورؤيته لنور، إلى غير ذلك من المقدمات والمبشرات التي حدثت معه في طفولته وشبابه، وقبيل بعثته ونزول الوحي عليه.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من المولد إلى البعثة