انتهت غزوة بدرٍ بنصر الإِسلام والمسلمين، وهزيمة الشرك والمشركين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}(آل عمران:123). قال ابن كثير: "أي: يوم بدر، وكان في يوم جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله". وقد قتل المسلمون في هذه الغزوة سبعين من المشركين، وأسروا سبعين آخرين، وغنموا غنائم كثيرة، وقد وقع خلاف بينهم حول هذه الغنائم، إذ لم يكن حكمها قد شُرِّع بعد، ومن ثم كان أمر الغنائم عرضة لاختلاف وجهات النظر بينهم، فنزل القرآن الكريم بمشروعيتها وكيفية تقسيمها وتوزيعها، وفي ذلك قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(الأنفال: 1).
قال ابن كثير: "قال البخاري: قال ابن عباس: الأنفال: الغنائم .. عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟ قال نزلت في بدر". وقال السعدي: "الأنفال: هي الغنائم التي ينفلها الله لهذه الأمة من أموال الكفار، وكانت هذه الآيات في هذه السورة قد نزلت في قصة بدر، أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين، فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فأنزل الله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَال} كيف تُقَسَّم وعلى مَن تُقَسَّم؟".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدتُ معه بدرا، فالتقى الناس فهزم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، فأكبت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلي الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلي الله عليه وسلم، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، واشتغلنا به، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(الأنفال: 1)، فقسمها رسول الله صلي الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين (بالتساوي بينهم)) رواه أحمد. وفي السيرة النبوية لابن هشام، والبداية والنهاية لابن كثير، وفي رواية لأحمد: عن أبي أمامة الباهلي قال: (سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء. يقول: على السواء".
وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (جئت إلى النبي صلي الله عليه وسلم يوم بدر بسيف، فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو، فهب لي هذا السيف، قال:إن هذا السيف ليس لي ولا لك، فذهبت وأنا أقول: يعطاه اليوم من لم يبل بلائي (لم يعمل مثل عملي في الحرب)، فبينا أنا إذ جاءني الرسول صلي الله عليه وسلم، فقال:أجب، فظننت أنه نزل فيَّ شيء بكلامي، فجئتُ فقال لي النبي صلي الله عليه وسلم: إنك سألتني هذا السيف، وليس هو لي ولا لك، وإن الله قد جعله لي، فهو لك، ثم قرأ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}(الأنفال: 1)). وظاهر موقف وحديث عبادة بن الصامت وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما أنه من أسباب نزول آية الأنفال في غزوة بدر، وليس في ذلك ما يستنكر، فإن أسباب نزول آية أو بعض الآيات قد يتعدد، قال السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن": "كثيرا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسباباً متعددة".
ما إن نزل حكم الله عز وجل في الغنائم وكيفية توزيعها، حتى اختفى كل خلاف، وكان هذا شأن الصحابة رضوان الله عليهم في كل أمر يقطع فيه الله ورسوله بحكم. فبمجرد سماعهم لهذه الآيات القرآنية من سورة الأنفال، اجتمعت قلوبهم، وقبلوا أمر الله عز وجل وسلموا له، فالغنائم بالنسبة لهم لا تعني رصيداً ماديّاً أبداً، فالمهاجرون تركوا أموالهم لله عز وجل، والأنصار شاطروا إخوانهم في أموالهم ودورهم، لكنها غنائم أول معركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد كفار قريش، الذين أخرجوهم من ديارهم وأخذوا أموالهم، والمشاركة في هذه الغزوة والحصول على شيء من غنائمها له في النفوس أثره، ثم إن الصحابة بشر، يصيبون ويخطئون، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيههم وتصحيح أخطائهم، لتأخذ الأمة الدروس والعبر من هذه الأحداث والمواقف، حتى يجعلوا جهادهم بعد ذلك خالصاً لله عز وجل، وحتى لا تكون أعراض الدنيا سبباً في اختلافهم، ولذا قال الله تعالى في نفس آية الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(الأنفال: 1)، قال ابن كثير: "أي: اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم، ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه". وقال السعدي: "الأنفال لله ورسوله يضعانها حيث شاءا، فلا اعتراض لكم على حكم الله ورسوله، بل عليكم إذا حكم الله ورسوله أن ترضوا بحكمهما، وتسلموا الأمر لهما، وذلك داخل في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} بامتثال أوامره واجتناب نواهيه .. {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر، بالتوادد والتحاب والتواصل..فبذلك تجتمع كلمتكم، ويزول ما يحصل - بسبب التقاطع - من التخاصم والتشاجر والتنازع".
لقد أكرم الله عز وجل كل من شهد بدراً من المسلمين، وخصهم بفضل عظيم، فعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه وكان من أهل بدر قال: (جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟! قال صلى الله عليه وسلم: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال جبريل: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة) رواه البخاري. وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعل اللهَ اطلع إلى أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتُم، فقد وجبتْ لكم الجنةُ، أو فقد غفرتُ لكم) رواه البخاري. قال ابن حجر: "وأن الراجح أن المراد بذلك أن الذنوب تقع منهم لكنها مقرونة بالمغفرة تفضيلا لهم على غيرهم بسبب ذلك المشهد العظيم". وقال النووي: "قال العلماء: معناه الغفران لهم في الآخرة". فكل من شارك من الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة بدر كانت له المكانة اللائقة بالثناء الحسن في الدنيا، والفوز بالجنة والنجاة من النار في الآخرة، فأهل بدر هم النجوم التي أضاءت تاريخ الإسلام حتى أصبح يقال لأحدهم: فلان بدري، وفلان شهد بدراً، وكفى بهذه المنقبة شرفاً وتعظيماً لهم في هذه الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكفى بذلك أجراً وإحساناً عند رب العالمين في الحياة الآخرة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من بدر إلى الحديبية