تعد الوثائق المكتوبة هي المصدر الأول لأيّ بحث تاريخي، بل هي شاهد العيَان الذي ينقل تفاصيل الحدَث التاريخي بزمانه ومكانه وأشخاصه وجزئياته فالوثيقة هي تسجيل ثابت للحدث ساعة حدوثه بما يحفظ تفصيلات الموضوع ويحميها من عوامل التغيير والزيادة أو النقص الذي يطرأ نتيجة لتبَدُّل الأفكار والتوجهات وتأولات المتأخرين وتحريفاتهم إمّا قصداً نتيجة الأهواء الشخصية أو بدون قصد نتيجة الجهل أو نتيجة النسيان الذي هو من طبيعة النفس البشرية وقد نبـّه القرآن الكريم إلى أهمية الكتابة والتوثيق في حيَاة الانسان في عدّة مواضع منها قوله تعالى : {يَا أيُّها الذين آمَنوا إذا تداينتم بدَيْن إلى أجلٍ مسَمَّى فاكتبوه ولْـيَكتب بينكم كاتبُ بالعدل ... إلى قوله تعالى : ولا تسْأمُوا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجَله ذلكم أقسَطُ عند الله، وأقوَم للشهادة، وأدنى أن لا ترتابوا ... } [ الآية رقم : 282 سورة البقرة ]
وقد اختلف علماء التوثيق المعاصرون في تعريف الوثيقة بمعيارها التاريخي
1- عرفها الألماني " مولر " بقوله : ( كل ما هو مكتوب أو مرسوم أو مطبوع، والذي يصدر أو يستلم من أي دائرة أو مؤسسة رسمية، والذي تقرر الاحتفاظ به لأهميته وفائدته لتلك الدائرة )
2- عرفها الإيطالي " يوجينو " بقوله : ( التجميع المنظم للوثائق الناتجة عن فعاليات الدوائر والمؤسسات أو الأشخاص، والتي تقرر حفظها لأهميتها السياسية أو القانونية أو الشرعية لتلك الدائرة أو الشخص )
3- عرفها الألماني " أودلف برنيكه " بقوله : ( كافة الأوراق والسجلات التي وجدت وتجمعت خلال الأعمال القانونية أو الرسمية للمؤسسات الحكومية والتي تقرر حفظها بصورة دائمة في مكان معين كمصدر إثبات للماضي )
4- عرفها د . محمد ماهر حمادة بقوله : ( صك يحتوي على معلومات تصدرها هيئة رسمية معترف بها . ومعترف لها بالحق في إصدار تلك الأشياء . ويحمل من السمات العائدة إلى تلك الهيئة ما يمكن الاطمئنان إلى صحة صدورها عن تلك الهيئة لقطع دابر التزوير )
إن الحديث عن الوثائق والوثائق التاريخية والعناية بها، حديث ذو شجون، فعلى الرغم من تطور الوسائل الحديثة ودخول التكنلوجيا في جميع الحقول إلا أن هذا الجانب بالتحديد لم يلق الاهتمام الكافي به في عالمنا العربي ، لكي يستطيع الباحثون الاستفادة من الوثائق والتعامل معها بطريقة تمكنهم من تطوير بحوثهم في هذا الجانب . ولعل الباحث المستقل هو المتضرر الأكبر من عدم وجود عناية كافية بالوثائق أينما وجدت .
إن الوثائق علم بحد ذاته وعالم مختلف كلياً عما نتعلمه في عصرنا الحالي، فتجد فيها كل ما هو مفيد عن العصور الماضية .
إن الوثائق القديمة مفيدة في معرفة تاريخنا ،و هي الركيزة الحقيقية التي يعتمد عليها الباحثون عن الحقيقة، ففيها نجد كل شيء نجهله عن القرون الماضية، وهو ما أكدت عليه الكثير من الوثائق التي حصلنا عليها .
إن أهم ما يعوق وصول الوثائق التاريخية إلينا هو:
الأول : عدم تفهم الناس لأهمية الوثائق، فالكثير منهم يمتلكون وثائق ولكن لجهلهم وتفكيرهم القاصر فانهم يحجمون عن اطلاعنا عليها، فالبعض منهم يعتقد أن إظهار الوثيقة سيسبب أمراً غير محمود العواقب، كأن يكون في بعضها خلافات قبلية أو ما شابه ذلك .
الثاني : عدم وجود الدعم المادي والمعنوي للباحثين، وهذا الأمر جعل بحوثنا تقتصر على جوانب معينة فقط، لعدم مقدرتنا على الحصول على قدر أكبر من الوثائق المهمة، والتي نعتقد في ظل الدعم المادي سواء من أصحاب رؤوس الأموال أو من الجهات الحكومية ذات الشأن .
إن الباحث المطلع على الوثائق يجد أن الدولة العثمانية قد اهتمت بالوثائق اهتماما ليس له نظير في العالم الإسلامي، فالوثائق العثمانية نموذج للوثائق ذات الأهمية العالية والفوائد الكثيرة، لأنها تغطي فترة زمنية طويلة كانت حركة التأليف خلالها في معظم البلاد العربية ضعيفة، قل من يرصد الأحداث ويسجلها، وندر من يتتبع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ويكتب عنها .
إن ظهور الوثائق العثمانية بدأ بالأرشيف العثماني في استانبول الذي يحوي 150 مليون وثيقة فضلاً عن الدفاتر والسجلات في بعض الإدارات والمكتبات القديمة الذي أظهر لنا منجما غنيا بالكنوز الدفينة وثروة من المعلومات لا تقدر بثمن .
وقد قامت السلطات التركية بإنشاء تخصص في الجامعات التركية يعنى بترجمة الوثائق القديمة، لأن اللغة التركية القديمة لم تعد موجودة حالياً ولا يعرف التعامل معها إلا قلة من الناس، فوجود مثل هذه الترجمات قد يفيد الباحثين كثيراً .
وخلاصة القول لابد من العمل على إبراز الوثائق والاهتمام بها حتى لا يضيع تاريخ الأمة.
فهناك ظاهرة غريبة وجدتها هذه الأيام، ففي سنوات خلت كان أجدادنا يعتمدون على الحفظ، فتجد الواحد منهم يحفظ تاريخ الأحداث والأيام والميلاد والوفاة، ويشترك في ذلك الرجال والنساء، واليوم ضعفت ملكة الحفظ بسبب عوامل عديدة منها : جناية الأجهزة والوسائل الإعلامية الحديثة .. وبالأمس كان أجدادنا يحسنون الظن في كل باحث أو كاتب أو مؤرخ فيبسطون له ما يملكون ويفتحون له نفوسهم قبل سطورهم، ويمدّون له يد العون بكل ما يملكون، أما اليوم فلا !! فقد وجدت عدداً كبيراً من الناس ما إن تسألهم عن حقيقة تاريخية أو حدث معين أو ميلاد أحد آبائهم حتى ( يقفز ) إلى أذهانهم سوء الظن، فتسمع سؤالهم : وماذا تريد ؟ وما دخلك بذلك ؟ و ( عسى ما شر ..!! ) .. ولسان حالهم يقول :- من المؤكد أن له مصلحة مادية من البحث أو أن له مقصداً لا يسرنا !!
أما إن سألت عن وثيقة ( يملكونها ) أو مخطوطة تحت أيديهم فإن الصعود إلى سطح القمر أقرب إليك من الاطلاع عليها أو الحصول على نسخة أو صورة منها، والسبب الوحيد هو أن سوء الظن( قد عُيّن بقرار حاسم ) حارساً لتلك الوثائق والمخطوطات !!
وحديثي هنا عن الوثائق والمخطوطات التي يملكها الأفراد وليس عن تلك التي في المكتبات العامة؛ لأن الأخيرة لها نظام واضح معروف، والمكتبات تتعاون مع الباحثين تعاوناً كبيراً رائعاً .. ويمكن للباحث إذا أثبت غرضه البحثي أن يحصل على صورة لما طلبه وأن يطلع على كل ما يطلبه حسب شروط رسمية معروفة .
وهناك فريق آخر من العامة تكون مواقفهم من الوثائق والمخطوطات مواقف معاكسة تماماً للفريق الأول، ففي مقابل ( تشدّد ) الفريق الأول وسوء ظنهم في الباحثين ومنعهم الاطلاع على الوثائق نجد الفريق الثاني لا يقيم للوثائق والمخطوطات أي وزن، فهي ترمى في أي مكان، وسرعان ما تصلها حشرات الأرض، فتجد لها فيها مرتعاً خصباً حتى تنقرض ويحرم منها الباحثون .. وقد سمعت ورأيت صوراً مما فعله الفريق الثاني كما رأيت مواقف مما يفعله الفريق الأول من عامة الناس الذين لديهم وثائق وصكوك ومخطوطات تحوي كنوزاً معرفية وحقائق نحن بأمسّ الحاجة إليها . والزهد في الوثائق عند الفريق الثاني قد يسلك طرقاً متعددة، منها بيع بعض الوثائق بأبخس الأثمان أو إهداؤها لمن لا يحسن الاستفادة والإفادة منها .
وتبقى هذه المشكلة عقبة كؤوداً في وجه الباحث، وحجر عثرة في طريق المؤرخ، ونقطة سوداء في منهج البحث والتحقيق .
وليس ما كتبت هنا اعتراضاً على حقوق الملكية العلمية والفكرية وليس دعوة للتهاون بشأنها، ولكنها أمنية ودعوة ورجاء إلى كل من لديه وثيقة أو مخطوطة يمكن أن يستفيد منها باحث أو مؤرخ أن يتعاون معه ويمده بما يحتاج بعد تأكده من مدى الحاجة ومقدارها والاتفاق على بيان المصدر والإشارة إليه .
ويمكن إن صححنا منهجنا في التعامل مع المخطوطات والوثائق أن نُمدّ الباحث بما يحتاج قبل أن يطلب ذلك.