"زخم" "هيمنة" "ثورة"... مَن أمعن النظر في الحقل المعجمي الواصف للإعلام وتطوره العصري، فلن يخفى عليه اندراج العديد من مفرداته تحت مفهوم القوة والسيطرة،هذه حقيقة لا معارض لها، إن الاتصال الجماهيري (MASS MEDIA) - وهو من أخص خصائص الإعلام المعاصر - قد فرض نفسه في حياتنا فرضًا، حتى أصبحت لا تكاد تجد من يستغني عنه تمامًا، ولو في أنأى مناطق الكرة الأرضية، إن افتتاح القناةالفضائية "Dog Tv" المتوجهة للكلاب يعكس بوضوح "لا حدودية" هذه الصولة الإعلامية المسعورة، التي تقصد اليوم عالم الحيوانات بعدما غطت كافة شرائح الجنس الإنساني من الولادة إلى الكهولة.
لما كان أغلب شركات الإنتاج الإعلامي لا يسُوسها إلا الجري وراء الكسب ـ دون أدنى اهتمام بالقِيَم والعواقب النفسية أو الفسيولوجية على المشاهِدين ـ فكان من اللازم اللازب أن نبقى يقاظى غير غافلين، متفاعلين غير منفعلين، بمسير التيار الإعلامي، وبمدى خطره على هُويتنا الإسلامية، لذلك أحسب - والله أعلم - أن توعية المسلمين وإرشادهم إلى حسن التعامل مع وسائل الإعلام من الأولويات التربوية في هذا الوقت.
الحديث عن التعامل مع الإعلام ذو شجون، وعمدت في هذه المقالات إلى التركيز على شريحة معينة، وهي مِن أكثر الفئات تعرضًا للإعلام وخطره، ألا وهم الأطفال، في هذا العالم الرقمي الجديد، أصبح ضروريًّا أن نتساءل عن آثار هذه الكائنات المستجدة على نمو أطفالنا النفسي، الوجداني.
إن كان معدل الساعات التي يمضيها الطفل المسلم مع الإعلام معقد التدقيق؛ لندرة إحصائياتها في المجتمعات الإسلامية - فلا يوجد أدنى شك أن مكانة الإعلام، على اختلاف أنواعه، قد تعاظمت عنده، بل أضحى يعد عنصرًا أساسيًّا من حياته اليومية، وهذا بمفرده كافٍ للتأكيد على ضرورة تربية ذراريِّنا إعلاميًّا، وإرشادهم إلى استهلاك إعلامي لا يعوق صلاحهم.
وباختصار، فإن هدف التربية الإعلامية الإسلامية هو توجيه الطفل لحسن التعامل مع وسائل الإعلام المحيطة به، من حيث يتوقى شره، وينتقي خيره، وذلك في إطار ما يُرضي اللهَ وسيلةً وغايةً، من هذه الوجهة لا يكون الأمر مشروع دفاع أو وقاية فحسب، بل يرمي إلى إعداد الأطفال لحسن الانتفاع من هذه الوسائل، وبما أن العملية التربوية - كما هو معهود - تراعي خصائص مرحلة الطفل العمرية من حيث الأساليب والأهداف، سنخصص مقالتنا الأولى للحديث عن الطفل ما دون ثلاث سنوات.
مسألة الطفولة المبكرة والإعلام قد تبدو طريفة لبعضنا، ولكن الواقع يشهد أن عددًا من الآباء والأمهات يلجؤون إلى استعمال البرامج المخصصة للأطفال (كالرسومات المتحركة) لغرض التسلية أو التنمية مع صغارهم. أيضًا، الإقبال على القنوات العربية المحاكية شقيقتها الغربية "بيبي تي في" المخصصة لبرامج الأطفال دون ثلاث سنوات، يؤكد على وجاهة العناية بهذا الموضوع.
فهل هذه البرامج تلعب حقًّا دورًا تنمويًّا وترفيهيًّا لدى هذه الفئة من الأطفال؟
للإجابة على هذا السؤال سنعتمد على أعمال أحد كبار المتخصصين في قضية الأطفال والإعلام، وهو الدكتور في علم النفس، والطبيب النفساني الفرنسي "سرج تيسرون" Tisseron Serge.
عام 2007، أطلق الدكتور عريضة ضد التلفزيون للأطفال دون سن الثلاث، وكثير من المهنيين في مرحلة الطفولة المبكرة لحقوا بمعركته،أسوق إليكم بعض تفاصيل ما أوصلته إليه دراساته في هذه المسألة:
"يجب أن نميز أولًا بين أنواع الشاشات المختلفة؛ إذ كلها تنطوي على مخاطر، وتوصيات خاصة بها".
♦ التلفزيون:
"وفيما يتعلق بالتلفزيون، نعتقد يقينًا أن كثرة الوقوف أمامه قبل سن الثانية يؤدي إلى اضطراب في الانتباه، والتركيز، وإلى انخفاض الأداء في الرياضيات.
يقول أيضا: "بعد دراسات طويلة وصلنا إلى أن التعرض الكثيف للشاشة أثناء الطفولة يزيد الاحتمال أن يتخذ الطفل ضحية من قبل رفاقه، والسبب أنه تعود على موقف المتفرج من العالم، لا المتفاعل معه؛ إذ التلفزيون عرض غير تبادلي".
"اليوم، لا يتم قياس النتائج الفسيولوجية للاستهلاك التلفزيوني عند الأطفال دون سن ثلاث سنوات، ومع ذلك تشير العديد من الدراسات الأميركية إلى أن مشاهدة التلفزيون لدى الأطفال دون هذا الحد لا تعزز نموهم، وحتى يمكن أن تبطئه".
"هناك نوعان من الدراسات حول تأثير التلفزيون على الأطفال الصغار: أولهما يشير إلى أن تطور الاكتساب اللغوي لدى الأطفال الذين يشاهدون التلفزيون أبطأ، ويُظهِر الثاني أن الطفل الصغير الذي يلعب في غرفة فيها تلفزيون يقضي وقتًا أقل في اللعب، علمًا أن الوقت الذي يقضيه الأطفال في اللعب أفضل مؤشرًا على حسن نموهم؛ لهذا لا ينصح الباحثون بترك الأطفال الصغار يلعبون في غرفة وجهاز التلفزيون مفتوح".
و"يجب أن نميز بين ما يحدث قبل ثلاث سنوات وما بعدها، أثناء السنوات الثلاثة الأولى، التفاعل الوحيد النافع للطفل هو التفاعل وجهًا لوجهٍ مع إنسان آخر، أو مع الألعاب التي يعالجها، بناءً على ذاك فإن التلفزيون لا يضيف شيئًا للطفل؛ لأن هذا الجهاز غير قابل للتفاعل قط".
توضيح
قبل مواصلة عرض رأي الدكتور يحسن أن نزيد شيئًا من التوضيح إلى ما أفاده في الفقرة السالفة:
قبل ثلاث سنوات ينمو الطفل خلال تعامله مع العالم المحيط به ووسائل الإعلام (التلفزيون خاصة)، تدفعه إلى لزوم موقف المشاهِد حين يحتاج أن يتعلم التفاعل مع ما حوله، إن نمو الطفل مرتبط بمهاراته الحركية، قدرته على التفاعل مع الكبار المحيطين به، والكائنات التي تدور حوله، توسيع قدراته متعلق باستخدام حواسه الخمس بنشاط، والاعتماد بشكل خاص على العلاقة مع الكبار الذين يتلقون مطالبه، يحتاج أن يرى نفسه قادرًا على التأثير في العالم المحيط به، وهذا ما يقوم به عندما يعالج الأشياء من حوله، ومن ثم فالتعرض لصور تبث على شاشة لا يشجع هذا النوع من التفاعل.
الحاسوب اللوحي ذو اللمس المتعدد:
"لم نقدر بعدُ على تقييم آثارها بدقة، وبالتالي فإن مبدأ الحيطة هو السائد، وفي الرأي التابع لأكاديمية العلوم الفرنسية عام 2013 قلنا: إن الحاسوب اللوحي ذا اللمس المتعدد يمكن أن يكون وسيطًا للعب المشترك مع الأطفال دون ثلاث سنوات، بشرط أن يتم ذلك بمرافقة الكبار، وفي حدود فترة قصيرة (...)، نؤكد على ضرورة لعب الطفل بألعاب تقليدية؛ إذ يزاول بها كائنات ذات وزن، حجم، ورائحة حقيقية".
ألعاب الكمبيوتر:
الشعار: "لا للشاشة قبل ثلاث سنوات"، لا يقتصر على التلفزيون فحسب، بل يعم جميع أشكال الشاشات (...)، من الأفضل تجنب شاشات الكمبيوتر قبل ثلاث سنوات، كما هو الموصى به للتلفزيون، صحيح أن فائدة الكمبيوتر تكمن في تفاعليته، ولكن عيبه أنه يتطلب من الطفل متابعة التغييرات (الشكلية، الحركية...) على شاشة عمودية حين تتحرك يده في مستوى أفقي، غالبًا ينظر الطفل إلى يده، أو إلى الشاشة، ولكن معظم الأطفال الصغار لا يستطيعون الوصل بين الأمرين... فمن الأفضل تجنب اقتراح هذا النشاط للأطفال الصغار؛ لكونه لا يناسب نموهم".
في الختام، يظهر على ضوء ما سبق أن الموصى به في هذه المسألة: هو تجنيب الأطفال ما دون ثلاث سنوات كافة أنواع الشاشات؛ نظرًا إلى الأضرار المتحققة، وعدم الفائدة، ومع غياب وجود دراسة معارضة في حدود علمي.
ولِمَن يسأل عن البديل نجيب بما رد به الدكتور "سرج تيسرون" على عين هذا السؤال: "سلوا جداتكم! إن طفلًا أقل من ثلاث سنوات يمكن أن ينشغل وحده في وجود الكبار طالما يتوقفون بين لحظة وأخرى لمرافقته وتعزيزه".
اللهم أصلح ذريتنا، واعفُ عن تقصيرنا في حقهم!