بعد فتْح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة ورجوعه من غزوة تبوك، أقبلت الوفود إليه من كل مكان معلنة إسلامها، وكانت الوفادة إليه صلى الله عليه وسلم قد بدأت قبل الفتح، إلا أن الوفادة العامة، وفي صورة متوالية مستمرة وقعت بعد عام فتح مكة في السنة التاسعة من الهجرة النبوية، ولذلك سُمِّيَت السنة التاسعة بعام الوفود، قال ابن هشام في السيرة النبوية: "لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه". وكان معظم أعضاء هذه الوفود من سادات القبائل وزعمائها، وربما توافد الرجل وحده عن قبيلة، أو توافد ومعه رهط صغير، ومن هذه الوفود وفد بني أسد بن خزيمة.
في السنة التاسعة من الهجرة النبوية، وبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه رضوان الله عليهم في المسجد، قدِم عليه عشرة رهط (جماعة) من بني أسد بن خزيمة، فيهم: حضرمي بن عامر، وضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد، ونقادة بن عبد الله، وطليحة بن خويلد، فسلموا عليه وتكلموا، فقال حضرمي بن عامر: يا رسول الله! إنا شهدنا أن الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله، ولم تَبْعَث إلينا بعْثاً، ولم نقاتلك كما قاتلتك العرب، ونحن لِمن وراءنا، فأنزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الحجرات: 17). قال ابن عباس رضي الله عنه: "{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ} يا مُحمّد، بَنو أسد".
وقال الطبري في تفسيره: "يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يمنّ عليك هؤلاء الأعراب يا محمد أنْ أسلموا {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ}، يقول: بل الله يمنُّ عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، يقول: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا، فإن الله هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم. وذُكِر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد، امتنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: آمنا من غير قتال، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا، فأنزل الله فيهم هذه الآيات".
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (قدم وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلموا، فقالوا: قاتلتك مُضَر، ولسنا بأقلهم عددا، ولا أَكَلِّهِمْ (أضعفهم) شوكة، وصَلْنا رحِمَك، فقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: تكلموا هكذا؟ قالوا: لا، قال: إن فقه هؤلاء قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم، قال: فأنزل الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(الحجرات: 17)) رواه البزار والنسائي وحسنه السيوطي. وفي رواية للطبراني: (فالتَفَت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكرٍ وعُمر فقال: أتقولانِ هكذا؟ فقالا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ فِقْهَهم قليل، وإنَّ الشَّيطان يقول على ألسنتهم).
قال ابن حجر في فتح الباري: "وبنو أسد كانوا فيمن ارتدَّ بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي لما ادَّعى النبوة، ثم قاتلهم خالد بن الوليد في عهد أبي بكر وكسرهم، ورجع بقيتهم إلى الإسلام، وتاب طليحة وحَسُنَ إسلامه، وسكن معظمهم الكوفة بعد ذلك ..".
وقد سأل بنو أسد النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن بعض أمور الجاهلية ـ من الكهانة وغيرها ـ كانوا يفعلونها فنهاهم عنها، وقد ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد، وابن سيد الناس في "عيون الأثر".
لقد كان السبب والهدف من هذه الوفود التي قدِمت على النبي صلى الله عليه وسلم يختلف من وفد لآخر، فمنهم من جاء يريد ردَّ السبايا والأسرى كما حدث مع وفد هوازن، ومنهم من جاء يبدي رغبته في الإسلام، ومنهم من جاء مسلماً طائعاً ممثلاُ لقومه وقبيلته كوفد بني فُزارة ووفد الأشعريين وأهل اليمن ووفد عبد القيس، ومنهم من جاء راغباً في معرفة وتعلم تعاليم الإسلام وأحكامه كوفد ضمام بن ثعلبة من بني سعد.. وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بجميع الوفود وحرص على توجيهها وتعليمها أركان الإسلام وأحكامه وتعاليمه، ومن هذه الوفود وفد بني أسد .
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من تبوك إلى الوفاة