سورة الفتح هي السورة الثامنة والأربعون بحسب ترتيب المصحف العثماني، وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة الصف، وقبل سورة التوبة. عدد آياتها تسع وعشرون. وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: (نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحُدَيْبِيَة، وقد حِيل بيننا وبين نُسُكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، أنزل الله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أُنزلت عليَّ آية أحب إلي من الدنيا وما فيها) وفي رواية (من أولها إلى آخرها). وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة، ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها، أو من غيرها. وهذه السورة نزلت بموضع يقال له: كُراع الغَمِيم بضم الكاف من كُراع، وبفتح الغين، وكسر الميم من الغَمِيم: موضع بين مكة والمدينة.
تسميتها
سُميت في كلام الصحابة سورة الفتح. ووقع في "صحيح البخاري" عن عبد الله بن مُغَفَّل، قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، وهو على ناقته، أو جمله، وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح -أو من سورة الفتح- قراءة لينة، يقرأ، وهو يُرَجِّع). (يُرَجِّع) من الترجيع، وهو ترديد الصوت، أو هو تحسين الصوت. وفي "الصحيحين" أيضاً من حديث سهل بن حُنَيْف، قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُدَيْبِيَة، ولو نرى قتالاً لقاتلنا...). ثم حكى مقالة عمر رضي الله عنه إلى أن قال: (فنزلت سورة الفتح). ولا يُعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح مكة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين.
روى البخاري في "صحيحه" عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فسأله عن شيء، فلم يجبه، فقال عمر رضي الله عنه: ثكلتك أمك يا عمر! نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل ذلك لا يجيبك، قال عمر رضي الله عنه: فحركت بعيري، حتى تقدمت أمام الناس، فخشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت، فقال: لقد أنزلت فيَّ الليلة سورة، لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}.
وللشيخين -واللفظ لمسلم- عن أنس رضي الله عنه، قال: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} إلى آخر الآية مرجعه من الحُدَيْبِيَة، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، قد حيل بينهم وبين مناسكهم، ونحروا الهدى بالحُدَيْبِيَة، فقال: نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا، فلما تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل من أصحابه: (قد بين الله عز وجل لك ما يفعل بك). وفي رواية: (هنيئاً مريئاً لك يا رسول الله، هذا لك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله عز وجل الآية التي بعدها: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} (الفتح:5).
وروى الإمام أحمد في "المسند" عن مُجَمِّع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه، وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، قال: شهدنا الحُدَيْبِيَة، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس يُنْفِرون الأباعر -جمع بعير- فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أُوْحِى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف -الإيجاف: الإسراع في السير، يقال: وَجَف الفرس: إذا أسرع- حتى وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كُراع الغميم، واجتمع الناس إليه، فقرأ عليهم: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله! أَوَ فتح هو؟ قال: (إي والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح).
وروى النَّسائي في "السنن الكبرى" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحُدَيْبِيَة، فذكر أنهم نزلوا دَهَاساً من الأرض -الدَّهَاس: الرَّمْل- فذكر قصة نومهم عن الصبح، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم حين استيقظوا، ثم قال: فركب، فسرنا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل الوحي اشتد عليه، وعرفنا ذلك منه، فتنحى منتبذاً خلفنا، فجعل يغطي رأسه، فيشتد عليه، حتى عرفنا أنه قد أُنزل عليه، فأتانا فأخبرنا أنه قد أُنزل عليه: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}.
وروى عبد الرزاق عن أبي برزة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} (الفتح:1).
مناسبتها لما قبلها
قال العلامة الآلوسي في تفسيره "روح المعاني": "حَسُن وضعها هنا بعد سورة محمد (القتال):
1 - لأن الفتح بمعنى النصر رُتِّب على القتال.
2 - ولأنه ذكر في كل منهما المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين.
3 - ولأنه قد جاء في السورة الأولى محمد (القتال) الأمر بالاستغفار، قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} (محمد:19) وذكر هنا في سورة الفتح وقوع المغفرة في قوله سبحانه: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (الفتح:2) إلى غير ذلك من المناسبات المتعددة".
مقاصدها
تضمنت هذه السورة جملة من المقاصد، هي وفق التالي:
- بُدِئت السورة الكريمة بالبشارة بالفتح المبين، وبما أفاء الله به على رسوله والمؤمنين من نصر عزيز وتأييد مبين.
- تضمنت السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحُدَيْبِيَة، وأنه نصر وفتح، فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين، وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت، وكان المسلمون عِدَة لا تُغلب من قلة، فرأوا أنهم عادوا كالخائبين، فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين.
- بيان أن الله سبحانه أرسل رسوله محمداً للناس شاهداً ومبشراً ونذيراً؛ ليتحقق الإيمان بالله ورسوله، ويعم الخير والحق بين الناس بطاعته وتعظيمه.
- التنويه بكرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، ووعده بفتح آخر، يعقبه فتح أعظم منه، وبفتح مكة.
- بيان أن الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وعاهدوه على نصرته، والاستشهاد في سبيل دعوته، أنهم بعملهم هذا ومبايعتهم له إنما يبايعون الله، ويد الله فوق أيديهم بالنصر والتأييد، فمن نقض منهم العهد بعد ميثاقه، فضرر ذلك عليه، ومن أوفى بالعهد، فسيؤتيه الله أجراً عظيماً.
- ذِكْرُ بيعة الحُدَيْبِيَة، والتنويه بشأن من حضرها، وفضح الذين تخلفوا عنها من الأعراب، ووصفهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر، فإن استجابوا غُفر لهم تخلفهم عن الحُدَيْبِيَة.
- تناولت الآيات أصحاب الأعذار الذين يباح لهم التخلف عن القتال؛ لعجزهم عن مباشرته، وأنهم لا إثم عليهم في ذلك.
- ذكرت السورة مِنَّة الله في كف الكافرين عن المؤمنين، والمؤمنين عن الكافرين يوم فتح مكة، بعد أن نصرهم الله وأقدرهم عليهم.
- بيان أن الله صدق رسوله الرؤيا بالحق، وكان الرسول قد رأى في منامه أنه يدخل هو ومن معه من المؤمنين المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون.
- الثناء على المؤمنين الذين بايعوا رسوله الأمين وأيدوه ونصروه، وأن الله قدم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل.
- خُتمت السورة ببيان خُلِق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح:29) وببيان نعتهم وصفتهم في التوراة والإنجيل، وبذكر ما أعده الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من المغفرة والأجر العظيم.
وقد قال البقاعي: "ومن عجائب هذه السورة: أنها تسع وعشرون آية، وقد جمعت حروف المعجم وهي تسع وعشرون حرفاً، في آخر آية فيها، وهي: {محمد رسول الله...} إلى آخرها، ولم تجتمع هذه الحروف في آية إلا في هذه السورة، وفي آية في أواخر سورة آل عمران، إشارة إلى علو التوحيد على كل كفر، كما أشارت إليه الآية التي قبلها".