الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، كتب البلاء على أهل هذه الدار، وجعل أنبياءه ورسله أشد الناس بلاءً ثم من أشبههم من عبادَه الأخيار.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق {الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وليعلم الصادقين من الكاذبين، وليعلم المتقين من الفجار.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أفضل مَن ابتُلي فصبر، وأُعطي فشكر، فصلِّى الله عليه وعلى آله وأزواجه، وصحبه السادة الأطهار، وعن تابعيهم وتابعي تابعيهم بإحسان إلى يوم القرار، وسلم تسليما كثيرا.
اتقوا الله عباد الله.. واعلموا أن آية الإيمان الصبر على البلاء، والشكر عند العطاء، وأن المؤمن إذا لزم الصبر والشكر فإنه يتقلب من أجر إلى أجر، ومن خير إلى خير؛ فإن الصبر والشكر مطيتان لا تكبوان.
قال عمر رضي الله عنه: (لو أن الصبر والشكر مطيَّتان، لم أبال أيتهما ركبت، ولو كان الصبر من الرجال كان كريما).
وقال علي بن أبي طالب: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قُطِع الرأس ذهب الجسد.. ثم قال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبْر له).
معنى الصبر:
الصبر: تحمل البلوى من غير شكوى، وقيل: تحمل الغصص من غير عبس.. فهو خلق كريم يمنع من فعل ما لا يحسن.
وأركانه ثلاثة: حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن فعل ما لا يرضي الرب سبحانه، كشق الجيوب، ولطم الخدود، وحلق الشعور، والدعاء بدعوى الجاهلية.
وليس معنى الصبر ألا تدمع العين، وألا يحزن القلب، وألا يتأثر المرء.. ولكن الصبر معناه عدم التسخط بما قدره الله وقضاه.. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند فقد ولده إبراهيم: [تدمعُ العينُ، ويحزَنُ القلبُ، ولا نقولُ إلَّا ما يُرضي ربَّنا. واللَّهِ يا إبراهيمُ إنَّا بِكَ لمَحزونونَ](رواه مسلم عن أنس).
الصبر عند الصدمة الأولى:
وأصل الصبر عند الصدمة الأولى: فإن بعض الناس تفجأه البلية، وتلهيه المصيبة فيخونه الصبر، ويفوته عظيم الأجر.. وقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: [مرَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال: اتَّقي اللهَ واصبري. قالت: إليكَ عَنِّي، فإنكَ لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفْهُ، فقيل لها: إنَّهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأتت باب النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فلم تجد عندَهْ بوَّابِينَ، فقالت: لم أعرفْكَ، فقال: إنما الصبرُ عند الصدمةِ الأولى].
المعينات على الصبر:
إن المصائب والمحن تتفاوت تفاوتا كبيرا، وقد تكون المصيبة عظيمة فتحتاج إلى صبر جميل، وعقل رشيد، وإيمان شديد، وتوفيق من الله وتسديد، وقد يحتاج المرء معها ما يسلى به نفسه، ويهون عليه مصيبته، ويعينه على الصبر الجميل. وقد ذكر العلماء أمورا تعين على حسن الصبر والرضا.. فمن ذلك:
أولا: أن تعلم أن ما نزل بك إنما هو قضاء الله وقدره:
وأن قدر الله لا يرد، فالقدر لا مهرب منه، ولا محيد عنه ولا دافع له.. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وهذا المقدر مكتوب قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة؛ كما جاء في الحديث، وقد قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}(الحديد: ).
فلو اجتمع كل الناس على أن يردوا عنك هذا الذي نزل بك، لم يقدروا إلا بأمر الواحد القهار. كما قال عليه الصلاة والسلام لابن عباس رضي الله عنه: [واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله، رفعت الأقلام وجفت الصحف].
قال عبادة لابنه: "واعلم أنك لا تكون مؤمنا حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك".
فإذا علم الإنسان أن البلاء قضاء لا مهرب منه، وقدر لا مدفع له إلا بالله، لم يجد أمامه إلا الصبر والتسلي.
ثانيا: أن تعلم أن كل الناس مبتلى، وأنك لست وحدك في هذا الطريق:
فالابتلاء قانون عام وسنة كونية يخضع له كل إنسان، والدنيا دار فناء، ومنزل اختبار وابتلاء، فلا ينجو من بلائها غنيٌّ ولا فقير، ولا عظيم ولا حقير، ولا سوقة ولا أمير، ولا مؤمنٌ تقي، ولا كافر شقي، فانظر حولك وتأمل حال الناس
من لم يصب ممن ترى بمصيبة .. هذا سبيل لسبت فيه بأوحد
والاشتراك في المصائب يهونها، كما قالت الخنساء حين مات أخوها صخر:
ولولا كثرة الباكين حولي .. على إخوانهم لقتلت نفسي
ولئن نزلت بكل دار ساعة .. وسمعت من كل أمرئ شكواه
لعلمت أنك في الحيـاة منعم .. فاحـمـد كريـمـا لا إله ســواه
ثالثا: أن تعلم أن الجزع لا يرد المصيبة:
فالجزع على الفرصة الذاهبة لا يعيدها، والجزع على السيارة المحطمة لا يصلحها، والجزع على المال الضائع أو الهالك لا يرجعه، والجزع على المريض لا يشفيه، كما أن الجزع على الميت لا يحييه.
فليس من وراء الجزع منفعة، غير أنه يشمت الأعداء، ويسيء الأصدقاء، ويرضي الشيطان، ويغضب الرحمن، ويضيع الأجر على الإنسان: (مر علي بن أبي طالب على عدي بن حاتم رضي الله عنهما، فرآه كئيبا مغموما، فقال له: ياعدي! من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله مضى عليه وحبط عمله).
رابعا: أن ترى لطف الله فيها:
فما من بلية إلا ولله فيها أربع عطايا وزيادة:
أنها لم تكن أكبر منها، وأنها لم تكن في الدين، وما يدخر الله فيها من الأجر، وما يفتح بسببها من الخير.
فإن الإنسان يصاب بمصيبة فتفتح عليه أباب التوبة والأوبة والتذلل إليه سبحانه، والانكسار بين يديه، فيقربك منه حتى ربما تنسى مصيبتك من حلاوة ما تجد من الأنس بالله {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه}(الزمر:8)
خامسا: التسلي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فكل مصيبة بجانب موت رسول الله صلى الله عليه وسلم هينة بسيطة، ولا والله ما أصيب المسلمون بمصاب مثل مصابهم بموته عليه الصلاة والسلام؛ حتى قال: [يا أَيُّها الناسُ! أَيُّما أحدٍ من المؤمنينَ أُصِيبَ بمصيبةٍ، فلْيَتَعَزَّ بمصيبتِه بي، عن المصيبةِ التي تُصِيبُه بغيري، فإنَّ أحدًا من أُمَّتي، لن يُصابَ بمصيبةٍ بعدي أَشَدَّ عليه من مصيبتي](صحيح ابن ماجة وصحيح الجامع).
مات لرجل ولد اسمه محمد، فجاء آخر ليعزيه فقال:
اصــبر لكــل مصـيبة وتجــلد .. واعلم بأن المـرء غير مخلد
أوما ترى أن المصائب جمـة .. وترى المـنية للعبـاد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة .. هذا سبيل لست فيه بأوحد
فإذا ذكــرت محمـدا ومصــابه .. فاذكر مصابك بالنبي محمد
سادسا: قراءة سير الصابرين:
من الأنبياء الأولين، والصالحين اللاحقين، والصابرين المعاصرين. كقصة عروة بن الزبير، والخنساء عن موت أبنائها الأربعة، وأمهات الشهداء في زماننا، وأمثال ذلك.
وقد ذكر التنوخي في كتاب "الفرج بعد الشدة": "أن امرأة كان لها زرع، فجاء البرد فذهب بزرعها، فأتاها الناس يعزونها، فرفعت بصرها إلى السماء وقالت: "اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف، وبيدك التعويض عما تلف، فافعل بنا ما أنت أهله، فإن أرزاقنا عليك، وآمالنا مصروفة إليك".
سابعا: الدعاء
فدعاء المكروب أقرب للإجابة قال تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون}.
فتذكر دعاء نوحا عليه السلام: وتذكر أيوب وزكريا ويونس، وكلهم قال الله بعد دعائهم، {فاستجبنا له}
فارفع يديك فإن الله يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفرا خائبتين. كما قال خير الصابرين عليه السلام.
ثامنا: اليقين بزوال المحن وانتهائها:
فلابد أن تنفرج وتزول، وأقرب ساعات الفرج عند أعلى أوقات الكرب.
فَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ ... فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى ... ذَرْعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ
ضاقت فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلْقَاتُهَا ... فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لَا تفرج
فانظر كيف يكون حالك بعد انقضاء البلاء وارتفاع المصيبة، واعمل على أن تكون من المأجورين لا من الموزورين.
تاسعا: تذكر عواقب الصبر والصابرين:
وما أعده الله لهم من حسن الجزاء في الآخرة، وحسن الخلف في الدنيا، والأجر العظيم والثواب العميم. فالصبر رغم مرارته إلا أن عواقبه أحلى من العسل
فالصبر مثل اسمه مر مذاقته ... ... لكن عواقبه أحلى من العسل
فمن جميل عواقب الصبر:
أولها: إعانة الله للصابرين ومعيته معهم: {واصبروا إن الله مع الصابرين}.
ثانيها: نوال الخير الكثير والفضل الكبير: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}.
ثالثها: الثواب الذي لا يحد والأجر الذي لا يعد: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
خامسها: صلوات الله ورحماته وهدايته: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
سادسها: محبة الله لهم: {والله يحب الصابرين}
سابعها: العوض في الدنيا والفوز في الآخرة، قال تعالى: {إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون}.
ثامنا وليس آخرا: صلوات الله ورحمته عليهم: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
فاللهم ارزقنا حسن الصبر على ما ابتلينا به، واجعل لنا أحسن الخلف فيما زويت عنا.. فأنت المعين على البلاء، وأنت المأمول لحسن الجزاء.. آمين.