في سورة النساء نقرأ قوله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} (النساء:105) وقد ورد في سبب نزول هذه الآية والآيات التي بعدها ما رواه الترمذي عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه، قال: كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق: بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً، يقول الشعر، يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر، قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث، وقالوا: ابن الأبيرق قالها، قال: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار، فقدمت قافلة من الشام من الدرمك (الدرمك: هو الدقيق الحواري) ابتاع الرجل منها، فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام (الضافطة: الذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن) فابتاع عمي رفاعة بن زيد حِمْلاً من الدرمك، فجعله في مَشربة له (المشربة: بضم الميم وفتحها: الغرفة) وفي المشربة سلاح، درع وسيف، فعُدِي عليه من تحت البيت، فنُقبت المشربة، وأُخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي! إنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه، فنُقبت مشربتنا، فذُهب بطعامنا وسلاحنا. فتحسسنا في الدار، وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق، استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرق، قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلالبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه، وقال: أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنها أيها الرجل، فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار، حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي! لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عميرفاعة بن زيد، فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سآمر في ذلك) فلما سمع بنو أبيرق، أتوا رجلاً منهم، يقال له: أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك ناس من أهل الدار، فقالوا: يا رسول الله! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: (عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينه) قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي! ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم يلبث أن نزل القرآن: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} بني أبيرق {واستغفر الله} أي: مما قلت لقتادة: {إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما * يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم} (النساء:106-108) إلى قوله: {غفورا رحيما} (النساء:110) أي: لو استغفروا الله لغفر لهم: {ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه} (النساء:111) إلى قوله: {وإثما مبينا} (النساء:112) قولهم للبيد: {ولولا فضل الله عليك ورحمته} (النساء:113) إلى قوله: {فسوف نؤتيه أجرا عظيما} (النساء:114) فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح، فرده إلى رفاعة، فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخا قد عشا في الجاهلية (أي قل بصره وضعف)، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي! هو في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سًلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا * إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} (النساء:115-116). فلما نزل على سُلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت به، فرمت به في الأبطح، ثم قالت: أهديت لي شعر حسان؟ ما كنت تأتيني بخير.
قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني". وقال أهل الشأن بالحديث: "بل رواه أيضاً مسنداً يونس بن بكير عند الحاكم. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه!" وسكت عنه الذهبي". وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي". ورواه الطبري مرسلاً بسند صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، عدا بشر، وهو ثقة. قال أهل العلم: والحديث وإن كان ضعيفاً من جهة إسناده، لكنه يعتضد بأمرين:
الأول: موافقته للسياق القرآني موافقة تامة، ومن المعلوم أن المطابقة بين سياق الآيات وسبب النزول قرينة تعضد السبب وتقويه.
الثاني: اعتماد المفسرين من السلف والمتأخرين له وتعويلهم عليه، ما يدل على أن له أصلاً، ومن البعيد جداً أن يعتمد المفسرون قديماً وحديثاً على سبب ليس له أصل.
وبالجملة؛ فالحديث يرتقي لدرجة الحسن لغيره.
وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث في سبب نزولها، وأورده بعضهم بسياق مقارب للمذكور، لكن الجميع اتفقوا على أن نزولها كان في بني أبيرق، كالطبري، والبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور.
قال ابن العربي: {إنا أنزلنا إليك الكتاب...} هذه الآية نزلت في شأن بني أبيرق، سرقوا طعام رفاعة بن زيد، واعتذر عنهم قومهم، بأنهم أهل خير، فذكر الحديث مختصراً، إلى أن قال: "نهى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة".
وقال ابن عطية: "سببها باتفاق من المتأولين أمر بني أبيرق، وكانوا إخوة..." فساق الحديث.
وقال القرطبي: "في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه وتقويم أيضاً على الجادة في الحكم، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق".
وقال ابن كثير: "وقد ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة". ثم ساق الحديث.
وقال ابن عاشور: "جمهور المفسرين على أن هاته الآية نزلت بسبب حادثة رواها الترمذي، حاصلها: أن إخوة ثلاثة، يقال لهم: بشر وبشير ومبشر أبناء أبيرق". فساق الحديث.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
أسباب النزول