من المكابرة العقيمة حقا، القول بأن اللغة العربية لا تعيش حالة أزمة حقيقية، متأتية في جزء منها من ماضيها القريب، وفي الجزء الآخر من واقعها الحالي.
والواقع أن التحديات التي تواجه اللغة العربية في العشرية الأولى من هذا القرن (كما من ذي قبل) إنما توحي ولكأن الخيط الناظم لها قد فقد، ولم تعد قادرة على الفعل:
فهي في محك من العولمة اللغوية، وعولمة التيارات الرمزية (بيانات ومعلومات ومعارف وغيرها) لم تستطع مجاراتها، ولا الاندماج في ناصيتها، عبر تطويعها للنقل التكنولوجي أو موطنتها للسلع اللامادية، التي تجول غير عابئة بالحدود أو بالسيادات الوطنية أو بالقوانين القومية.
وهي غدت في محك من منظومة الاقتصاد المعرفي، الذي تتجاوز أبعاده يوما عن يوم ما كان سائدا في عصور المادة المباشرة، أو عهود الإنتاج الصناعي الخالص، أو أنماط التنظيم الهرمي الذي يسيد الرئيس ولا يعير كبير قيمة للمرؤوس.
وهي في محك من البحث العلمي والإبداع التكنولوجي كونها (أو كون أبنائها) توقفوا عن الإنتاج التقني باستحضار لها، أو البحث العلمي بالاحتكام إلى مرجعيتها، فأضحت بالتالي كما لو أنها "غير صالحة" لذلك، ما دامت سبل الاشتغال العلمي والإبداع تتم من خارج منظومتها، بل ولا تشاع إن هي اعتمدتها لغة أو تبنيا أو وسيلة ترويج.
وهي باتت في آخر سلم التصنيفات بشبكات المعرفة (بناء للمواقع بالإنترنت، وتزويدا للخدمات، وإبداعا للنظم والبرامج المعلوماتية وما سواها)، وغدت كما لو أنها "لا تصلح" حاملا للشبكات المعرفية، التي تنتج المعلومات والمعارف، وتروجها على المستوى العالمي.
ومكمن الخلل هنا لا يتمثل في التهافت المتسارع لبلوغ الشبكات، بل في ضعف قواعد المعلومات بالعربية، التي من المفروض أن تكون ذات الشبكات حاملها، الممرر لمضامينها والمروج لمحتوياتها.
وهي تبدو كما لو أنها متجمدة في بنيتها الداخلية، فلم تفرز المفردات ولا المصطلحات الضرورية، التي من شأنها مواكبة عصر الشبكات، بل بقيت مرتكنة إلى أنماط في الصرف والإعراب والنحو والدلالة معقدة، من المتعذر حقا إدماجها بشبكات مفتوحة، مرنة وغير ممركزة.
والعلة هنا إنما كامنة في ندرة الدراسات المقاربة والتقابلية للغة العربية، لا سيما بجانب توليد الاشتقاقات، وتوليد المفاهيم، وإعادة النظر في علم الصرف. ولعل العلاقة بين نظم التوليد هاته، وبين علوم البيولوجيا الجزيئية وعلم نفس الذكاء والتوليد البيولوجي، بقادرة على الدفع بهذا الاتجاه، اتجاه البحث بجهة الاستفادة من اللغة العربية الطبيعية، لإفراز لغة "اصطناعية" تماشي هندسة نظم الآلات والحواسيب وما سواها.
وهي بقيت رهينة مجامع في اللغة العربية غير قادرة على الإبداع، وغير قادرة على الاستقلال إزاء الجهات الإدارية التي تملي عليها الشكل والمضمون (على خلفية من الفرنكفونية أو الأنجلوفونية أو ما سواها)... فـ"تنتقي من إشكالية اللغة العربية ما تقدر على تناوله، لا ما تحتاج إليه اللغة العربية بالفعل". والدليل في ذلك تعثر برامج التقييس أو ارتباطها بهذه الدولة أو تلك، مما تترتب عنه تكاليف مرتفعة، وضعف في مجال تبادل المعطيات والبيانات باللغة العربية على المستوى القومي.
وهي، فوق كل هذا وذاك، لم تستوعب الحركية الجديدة التي أضحت بموجبها اللغة أداة للغزو والاختراق، من لدن منظومات سيميائية تتفيأ الهيمنة والتفرد: إن اللغة باتت، برأي بعض الخبراء، "أشد الأسلحة الإيديولوجية ضراوة، وذلك بعد أن فرضت القوى السياسية وقوى المال والتجارة سيطرتها على أجهزة الإعلام الجماهيري".
إن إشكالية اللغة العربية (زمن العولمة، وتزايد مد الاقتصاد المعرفي، واقتصاد الشبكات وتطور التكنولوجيا والمعارف) إنما هي في جزء منها كامنة فيها بنيويا، لكن الجزء الأكبر كامن في أهلها وذويها، وأيضا في الناطقين بها على مستوى اللهجات.
المسألة منظومية تطاول كل الروافد، الاقتصادي منها كما الاجتماعي كما السياسي كما الثقافي كما النفسي كما غيرها، وليست حكرا على اللغة العربية باعتبارها لغة.
فالفجوات هنا، يقول نبيل علي، قائمة على مستويات التنظير اللساني، والمعجم، وتعلم اللغة العربية، والاستخدام اللغوي والحوسبة، وأيضا على مستوى الموارد البشرية، وموارد المعلومات اللغوية، والتوثيق اللغوي وما سواها.
لكنها قائمة أيضا بجانب تضارب برامج الإصلاح والإصلاح المضاد بكل الدول العربية، وهو ما يفرز (جراء سياسات التعريب المرتجلة وغير السليمة) برامج تعليمية غير مناسبة، سرعان ما يتم تجاوزها بأرض الواقع، بعد حين من التطبيق.
اللغة العربية من هنا لا "تكتنز" العجز، لكن هذا الأخير متأت من التحدي الذاتي الداخلي الذي لم يستطع أبناؤها رفعه، ومن التحدي الخارجي الملازم لطبيعة التوزيع الجيو/لغوي العالمي (وللعمل أيضا)، والذي تعمل اليابان مثلا (عبر توظيف تفوقها التكنولوجي في المجال المعلوماتي) كي تنتزع الزعامة اللغوية لتكتل الدول غير الناطقة بالإنجليزية.
بالتالي، فوضع العربية المتخلف على مستوى مسايرة عولمة تيارات الرموز وتقدم مجتمعات المعرفة، إنما هو من وضع التخلف العام الذي يطاول المنطقة العربية برمتها. وخلاصها من الوضع إياه هو من خلاص المنطقة برمتها، إذ الثابت أن سيطرة الإنجليزية مثلا على شبكة الإنترنيت هو من قوتها الاقتصادية والمالية والتجارية والعلمية والتكنولوجية التي جعلت من اللغة إياها لغة العالم أو تكاد: الترهل هو ترهل منظومة بكاملها، وليس ترهل رافدها اللغوي لوحده.
وعليه فإن اللغة لا يمكنها أن تعطي إلا بالقدر الذي يستطيع أبناؤها منحها، وحل معضلتها بإزاء المعرفة أو التكنولوجيا أو الشبكات الافتراضية، هو من حل معضلتها أولا وأخيرا بأرض الواقع.
- الكاتب:
يحيى اليحياوي - التصنيف:
أقليات وقضايا