حفلت المكتبة القرآنية مؤخراً بكتاب قيم، يبحث في تفسير التابعين، والكتاب في أصله وفصله رسالة جامعية، تقدم بها المؤلف محمد بن عبد الله بن علي الخضيري لنيل شهادة الدكتوراه. ومما جاء في مقدمة المؤلف، قوله: "أوجد الله في هذه الأمة رجالاً وقفوا حياتهم لحفظ شريعة ربهم، والذود عنها، فدأبوا على ذلك زمانهم، واستفرغوا فيه جهدهم، فحُفظت بهم الرسالة، حتى وصلت كما أنزلها الله تعالى، لا اعوجاج فيها ولا انحراف، فهم دعامتها وحماتها، ولم يكن لهم غاية من ذلك إلا ابتغاء رضوان الله تعالى.
ولذا كان من الواجب علينا أن نعرف سيرتهم، ونقف على مسالكهم، وننظر في آرائهم، فننهل من معينهم الصافي الذي لا كدر فيه، وننهل من زلال نبعهم الفياض الذي لم تَشُبْهُ شائبة، فهم خير القرون بعد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام".
دواعي اختيار الموضوع
ذكر المؤلف أن دافعه لدراسة هذا الموضوع كان يتلخص في التالي:
- أنه اجتمع في فترة التابعين خيرة من المفسرين، فرغب الباحث في دراسة مناهجهم للتعرف على مسالكهم، لتكون لنا نوراً نقبس منه، ودليلاً نسترشد به في تفسير كتاب الله.
- سعة الموضوع، وتنوع مباحثه، وتعدد مداخله، وتداخل علومه، ما يتيح فرصة الوقوف على جل علوم القرآن الكريم، والرجوع إلى أمهات كتب التفسير.
- طرافة الموضوع وجدته؛ فإنه لم يتعرض للخوض فيه إلا النزر القليل، فكان من الأسباب عدم إفراد هذا التفسير بدراسة مستقلة من قبل الباحثين المعاصرين.
خطة البحث
قسم الباحث موضوع بحثه إلى تمهيد وأربعة أبواب وخاتمة.
بيَّن في التمهيد:
- مفهوم التفسير بالمأثور لغة واصطلاحاً.
- التفسير في مراحله الأولى.
الباب الأولكان بمثابة مدخل إلى تفسير التابعين، وضمنه فصلين:
الأول: بيَّن فيه المراد بالتابعي، وحكم تفسيره.
الثاني: تكلم فيه عن مصادر تفسير التابعين، فذكر نوعين من المصادر اعتمدها التابعون في تفسيرهم لكتاب الله:
الأول: كتب السنن والآثار.
الثاني: كتب التفسير بالمأثور.
الباب الثاني تناول فيه المؤلف بالتفصيل مدارس التفسير في عصر التابعين، وخصائص تلك المدراس، وقد بحث ذلك في فصول ثلاثة:
الفصل الأول: ترجم فيه لأشهر رجال مدارس التفسير في عصر التابعين، وقد توسع في بيان أهم المعالم والسمات المتعلقة بكل مفسر.
الفصل الثاني: خصصه للحديث عن مدارس التابعين الرئيسة: المكية، والبصرية، والمدنية، والكوفية. وتضمن الفصل بإشارة موجزة للتفسير في الشام واليمن ومصر.
الفصل الثالث: عقده لدراسة خصائص التفسير في تلك المدارس.
أما الباب الثالث فقد خصصه المؤلف لبيان مصادر التابعين ومناهجهم في التفسير، وضمنه فصلين:
الفصل الأول: مصادر التابعين في التفسير، تناول هذا الفصل من خلال خمسة مباحث:
- القرآن الكريم.
- السنة.
- أقوال الصحابة.
- اللغة العربية.
- الاجتهاد.
الفصل الثاني: منهج التابعين في التفسير، وتناوله على ضوء أربعة مباحث:
- منهج التابعين في القراءات القرآنية.
- منهج التابعين في تفسير آيات الاعتقاد.
- منهج التابعين في استنباط آيات الأحكام.
- منهج التابعين في تلقي ورواية الإسرائيليات.
وجاء الباب الرابع ليبحث فيه المؤلف قيمة تفسير التابعين دراية، وتناول هذا الفصل من خلال مباحث ثلاثة:
- نوع الاختلاف بين مفسري التابعين.
- مميزات تفسير التابعين.
- منزلة تفسير التابعين عند العلماء.
الفصل الثالث: بيَّن فيه المؤلف أثر التابعين في التفسير وأصوله، وتضمن الفصل مبحثين:
- أثر التابعين في كتب التفسير.
- أثر التابعين في أصول التفسير.
ثم جاءت الخاتمة متضمنة أهم النتائج التي توصل إليها الباحث من خلال بحثه.
منهج المؤلف في عمله
قام عمل المؤلف على جمع أقوال التابعين من "جامع البيان" لشيخ المفسرين الطبري مستقرئاً لكل واحد منهم على حدة، وحاصراً تفسير كل تابعي على حدة، كما عَمَد إلى إحصاء وجمع تفسير مشاهير الصحابة، كابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما رضي الله عنهم، واستخرج تفسير مشاهير أتباع التابعين، كالضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ وذلك لتمييز مدارس المفسرين، ومعرفة طبقاتهم في القرون المفضلة، وبيان خصائص كل مدرسة.
كما جَهَدَ المؤلف على استخراج الآثار وتصنيفها وتبويبها، وفق ما إذا كانت من باب تفسير القرآن بالقرآن، أو تفسير القرآن بالسنة، أو تفسير القرآن بقول الصحابي، وبيان ما إذا روي حديث في أسباب نزولها، أو رويت عن أهل الكتاب، أو الاعتماد على لغة العرب، وبيان ما أشكل فيها، أو تضمن حكما فقهيًّا.
وقد استعان المؤلف بكتب التراجم والتواريخ والعلل لمعرفة مناهج التابعين وأحوالهم، وعَمَد أخيراً بعد جمع مادته وتنصيفها إلى المقارنة والموازنة بين تفسير كل إمام، وإسناد تفسير كل تابعي إلى مدرسته، وبيان ملامح كل مدرسة من مدارس التابعين.
النتائج التي خرج بها المؤلف
خرج المؤلف من بحثه بجملة من النتائج، نلخصها وفق التالي:
- أن هناك مدارس تفسيرية جمعت اتجاهات فكرية محددة، ومناهج واحدة في التفسير، وهي المكية، والبصرية، والكوفية والمدنية، وأيضاً المصرية والشامية واليمينة.
- أن مدرسة البصرة كانت مدرسة مستقلة، لها نِتاجها المتميز في التفسير، ولا تقل شاناً عن مدرسة الكوفة، بل هي -وفق نظر المؤلف- أهم منها؛ لأن نِتاجها التفسيري أكثر وأعمق.
- لم يكن ثمة نِتاج واضح متميز للمدارس المصرية والشامية واليمينة، بل كل ما ورد عنها إنما هو اقتداء واتباع لإحدى المدارس الأربع الرئيسة.
- أن المدرسة المكية اعتنت بالجانب الحرفي المعرفي، فغلب على أصحابها إيضاح الغامض، وبيان المبهم. في حين جاءت المدرسة البصرية لتعتني بجانب الدعوة والوعظ. أما المدرسة الكوفية فقد غلب عليها جانب التفسير الفقهي، والاهتمام بآيات الأحكام، وما يتعلق بها من حلال وحرام، وأمر ونهي.
- تأثر البيئة على المفسرين من التابعين؛ فالبيئة التي كان فيها عدد قليل من الصحابة، كان هذا له أثر معاكس في انتشار علم المفسرين من التابعين، فالتابعون في المدرسة المكية والمدرسة البصرية كان نِتاجهم التفسيري أكثر من التابعين للمدرسة الكوفية والمدنية.
- أن مدرسة المدينة كان أثرها في الجانب الروائي واضحاً، ولا سيما في القراءات القرآنية؛ حيث قلَّت عندهم القراءة الشاذة؛ لأن المصاحف كُتبت في المدينة. وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد، فكان لهم من العلم بمسائل وآيات الجهاد ما ليس لغيرهم. وتميز المكيون بالعلم بمسائل الحج والمناسك، ولا سيما عطاء.
- أن التفسير المأثور، والذي يعد الركيزة الأولى لما جاء بعدُ من تفاسير، كان جله عن التابعين، بل إن مجموع ما روي عن مشهوري مفسري التابعين كان فوق المروي عن مشهوري مفسري الصحابة.
- أن الاختلاف بين التابعين كان من باب اختلاف التنوع، وأن ما كان منه من اختلاف التضاد كان قليلاً، ومع قلته وندرته لم يكن من باب الاختلاف العقدي والمذهبي.
- من أهم مزايا تفسير التابعين الاستقلالية التي ظهرت في تفاسيرهم، فلم يكونوا مقلدين لشيوخهم، بل كانوا يتبعون ما يظهر لهم أنه الحق، ومن هنا كانت منزلة تفسير التابعين عند أهل العلم.
- أن ثمة كثيراً من الآيات لم يرد تفسير لها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن أتباع التابعين، وإنما ورد تفسيرها عن التابعين.
- أن أقوال التابعين كانت هي الأساس الذي قام عليه علم أصول التفسير.
- يعتبر التابعون إجمالاً أكثر اجتهاداً في التفسير من الصحابة باستثناء ابن عباس رضي الله عنهما.
- أن هناك ميلاً إلى التخصص في عموم مدارس التابعين التفسيرية، وخصوصاً في الأفراد أيضاً.
- تميز بعض التابعين بالبروز في أصل من أصول التفسير، فأكثر من الاعتماد عليه.
- أن هناك إغفالاً كبيراً غير متعمد لفضل المدرسة البصرية في التفسير وسبقها، مع أن نسبة المروي عنها يفوق كثيراً ما جاء في المدرسة الكوفية، التي يستروح المصنفون في علوم القرآن بإيرادها بعد المدرسة المكية.
- أن المشيخة العلمية أبلغ أثراً في بعض التابعين من البيئة المكانية التي عاشوا فيها؛ فأبو العالية مثلاً بصري المولد والمنشأ، ومثله سعيد بن جبير الذي عاش زمناً مديداً في الكوفة، لكنه مكي المشرب والطريقة، وكلاهما ممن تتلمذ على يد حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما.
- أن بعض التابعين لم يكن له في التفسير من إثر إلا العناية بالرواية عن شيوخه، ومن أبرز هؤلاء: الربيع بن أنس الذي نقل جل تفسيره عن شيخه أبي العالية، ولم يجاوزه، ومثله السدي الذي كان يقول بقول ابن عباس رضي الله عنهما.
- أن أئمة المفسرين بالمأثور اهتموا بإيراد أقوال التابعين أكثر من غيرهم، حتى إن كثيراً منهم كان معظم ما رواه هو من أقوالهم.
- أن أقوى الأسانيد وأصحها ما جاء عن التابعين، كمجاهد وقتادة، والمروي عنهما أقوى سنداً من المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو من أكثر الصحابة تفسيراً.
- لم ترد عن مفسري التابعين روايات منكرة وغريبة مثلما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم.
- أن أسباب تفاوت حال التابعين في الأخذ عن الصحابة ترجع إلى كثرتهم أو قلتهم في الأمصار مع اختلاف شخصية الصحابي وشخصية التابعي.
- كان الاستدلال بالقراءة غير المتواترة في آيات الأحكام مشتهراً عند التابعين.
- تعد المدرسة المكية أكثر المدارس تأثيراً في مفسري التابعين.
- أن التقارب المكاني بين البصرة والكوفة لم يكن له كبير أثر في التقارب المنهجي؛ فالكوفة تأثرت بالمدرسة المكية، وكان بينهما شيء من التجانس والاتفاق في كثير من المسائل، في حين كانت المدرسة البصرية إلى المدرسة المدنية أقرب.
- أن الورع الذي غلب على مدرستي المدينة والكوفة كان سبباً رئيساً في إقلالهما في باب التفسير؛ حيث لم يرد عنهم إلا القليل من الروايات في التفسير.
وقد ذيل المؤلف كتابه بفهرس لأهم النتائج والفوائد التي خرج بها، ورتبها وفق حروف المعجم، ووضع فهرساً لمصادر بحثه ومراجعه، حيث بلغ مجموع مصادره ومراجعه (640) مصدراً ومرجعاً، كما عمل فهرساً تفصيلاً لموضوعات كتابه.
والحاصل، أن هذا الكتاب يعد مرجعاً مهمًّا وأساسيًّا لمن أراد الوقوف على تفسير التابعين لكتاب الله العزيز؛ حيث بذل المؤلف جهداً مشكوراً في جمع مادة كتابه، وتمحيصها، وتصنيفها، وصياغتها الصياغة المناسبة.
صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عن دار اللباب للدراسات وتحقيق التراث في تركيا/إسطنبول سنة 1438ه-2017م بمجلدين، بلغت صفحات المجلد الأول منهما (670) صفحة، وبلغت صفحات المجلد الثاني (744) صفحة. وطُبع الكتاب على نفقة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
كتب قرآنية معاصرة