لا شيء أكثر ضلالا، ولا أعظم خسرانا، ولا أشد ألمًا وعذابا، ولا أكبر مصيبة وغبنا، من ظن المبطل أنه محق، وظن المخطئ أنه مصيب، وظن الضال أنه مهتد؛ يحفر في الماء وهو يظن أنه يحفر في التراب، وينقش على الرمل وهو يظن أنه ينقش على الصخر، فيتعب بلا فائدة، ويسعى بلا أجر، ويعمل بلا مقابل، بل ربما ارتد عليه باطله وخطؤه فأخذ به، وحوسب عليه، وعذب بسببه، وحينها لا ينفعه حسن القصد في الباطل، ولا صدق النية في الخطأ؛ فإن الباطل والخطأ لا يتحولان بحسن القصد إلى حق وصواب.
قال الله -تعالى- فيمن حسن قصده وساء عمله: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(الكهف: 104).
وبهذا ندرك أهمية الهداية، وخطر الغواية، ونعلم لِمَ نقرأ في كل ركعة نصليها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}(الفاتحة: 6).
إن أخطر شيء على العبد أن ينقلب قلبه، وينتكس فهمه فيرى سوء العمل حسنا، ويرى الباطل حقا، والضلال هدى، والخطأ صوابا.
إن هذا هو أحط دركات الجهالة، وهو أشد أنواع الخذلان، وهو أفدح الخسران.
والأفكار سواء ما كان منها حقا أم باطلا، فلكل دين حملته وعُبَّاده ودعاته، ولكل فكرة روادها ومروجوها، وفي هذا يقول الله -تعالى-: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام: 108).
وهذا يشمل الحق والباطل، والصواب والخطأ؛ فإنه مزين لصاحبه بأسباب أتاها، وأفعال فعلها.
وهو تزيين من الله -تعالى-؛ فإن الصادق معه سبحانه، الباحث عن الحق، المتجرد من الهوى يوفقه الله -تعالى- للحق والصواب، ويحبب له الخير، ويُكَرِّه له الشر؛ فيتبع الرسل، ويأخذ عن العلماء، ويقبل نصح المؤمنين، قال الله -تعالى- في هذا الصنف: {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}(الحجرات: 7).
فبين سبحانه أنه زين الإيمان في قلوب المؤمنين، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
وفي مقابل ذلك فإن العبد إذا كان ميّالا لهواه، ولم يصدق مع الله -تعالى-، ولم يقصد الحق والصواب؛ يخذله الله -تعالى-، فيزين له شيطانه ونفسه الخبيثة سوء عمله، فيظنه حسنا: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا}(فاطر: 8).
والكفر هو أسوأ السوء، وهو مع سوئه مزين لأصحابه، ما أعظمه من ضلال! وما أشده من خذلان! حين يكون أسوأ السوء، وأقبح القبح، وشر الشر، حسنا في نفس صاحبه، أي جهالة أحاطت بذلكم القلب؟! وأي ضلال كسي به؟! {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام: 122).
وفي آية أخرى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(الرعد: 33).
لقد أصيبوا بالعته والعمى والضلال، وحاق بهم الخذلان، وفارقتهم هداية الرحمن، فتسلطت عليهم الشياطين، فأرتهم السوء حسنا، والباطل حقا، والضلال هدى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}(النمل: 4).
فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثار سيء العمل على حسنه؛ فإنه لا بد أن يُعَرِّفَه سبحانه السيئ من الحسن، فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه؛ زينه سبحانه له، وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا.
وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله -تعالى- ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه، فربما رآه حسنا عقوبة له.
ومن بلغ هذا الحال بلغ المنتهى في رؤية سوء العمل حسنا، فكان تابعا للشيطان: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام: 43).
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}(الأنفال: 48).
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}(النمل: 24).
ويتمادى بالعبد تزيين الشيطان له سوء عمله، حتى يكون وليا له بعد أن فقد ولاية الله -تعالى-: {تَالله لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النحل: 63).
ولا يستوي من حظي بولاية الله -تعالى- وهدايته، فكان على نور من ربه، وله بينة في دينه، ويرى الحق بقلبه، لا يستوي بمن يتخبط في الظلمات، ويركب الأهواء، ويتسلط عليه الشيطان: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}(محمد: 14).
وفرعون قد ذُكر في القرآن رمزا للطغيان البشري، ومثالا لأشد أنواع الكفر حين ادعى الربوبية، وكل ما فعله من الصد عن دعوة الرسل، وتعبيد الناس لنفسه من دون الله -تعالى- إنما بسبب ما زُين له من سوء عمله، قال الله -تعالى- كاشفا حقيقة ذلك: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ}(غافر: 37).
ولهذا كانت البدعة أشد من المعصية؛ لأن البدعة مزينة لصاحبها، وليست المعصية كذلك؛ فأغلب العصاة يعصي ويعلم أنه عاص، وليس كذلك المبتدع، قَالَ سُفْيَانُ الثوري -رحمه الله تعالى-: "الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الَمْعَصِيَّةِ؛ لأَنَّ الْمَعْصِيَّةَ يُتَابُ مِنْهَا، وَالْبِدْعَةَ لا يُتَابُ مِنْهَا".
إن مفتاح الشر كله: أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله، فيراه حسنا!.
أن يُعجب بنفسه، وبكل ما يصدر عنها، ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه؛ لأنه واثق من أنه لا يخطئ! متأكد أنه دائما على صواب! معجب بكل ما يصدر منه! مفتون بكل ما يتعلق بذاته، لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء، ولا أن يحاسبها على أمر، فلا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله، أو في رأي يراه!.
هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان، وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال، فإلى البوار!.
إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية، والحذر والتلفت والحساب، فلا يأمن مكر الله -تعالى-، ولا يأمن تقلب القلب، ولا يأمن الخطأ والزلل، ولا يأمن النقص والعجز، فهو دائم التفتيش في عمله، دائم الحساب لنفسه، دائم الحذر من الشيطان، دائم التطلع لعون الله -تعالى- ومدده، وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال، وبين الفلاح والبوار.
قبول الموعظة
حري بالعاقل أن يخضع للحق، ويلين للنصح، وأن يقبل التذكير والموعظة، ولا يحتقرها مهما صغرت، بل يتأملها، فكم من موعوظ أفضل من واعظ، ولرب مبلغ أوعى من سامع: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}(الأعلى: 9-13).
أيها المسلمون: حين يقع المؤمن في معصية، ويعلم أنه عاص، فلا بد أن يستغفر ويتوب، ولو أصر عليها فإنه يكرهها لكونها معصية لله -تعالى-، لكن غلبه داعي الهوى، فوقع فيها.
وإنما البلاء العظيم، والخذلان الكبير، والخسران المبين أن يزينها الشيطان في نفسه فيستحلها، فتهوي به في قعر الكفر والنفاق، ولا يَستبعد عبد وقوع ذلك من نفسه؛ فإن الأمن من مكر الله -تعالى-سبب الخذلان والبوار.
تأملوا أحوال المصروفين عن الهداية، الراكبين طرق الغواية تجدوهم من أذكى الناس، وربما من أعلمهم بأمور الدنيا.
وتأملوا أحوال اليهود، وهم أهل الكتاب، وكانوا مرجع الناس في العلم، وهم ينتظرون مبعث نبي جديد، فلما بعث ناصبوه العداء، ولم يؤمن منهم إلا قليل، مع علمهم أنه منتصر لا محالة، وأن دينه سيظهر على الدين كله، ولكن من زين لهم سوء عملهم فلا حيلة فيهم.
وتأملوا حال أهل البدع بشتى أنواعها، وما جعلوه فيها من الشعائر البشعة، والتوسلات الشركية، والأفعال التي لا يقبلها الأسوياء من البشر، ويزعمون أنها تقربهم من الله -تعالى- لتعرفوا كيف يوبق تزيين سوء العمل صاحبه.
وأناس حازوا من العلم ما حازوا سخروه في خدمة البشر لا في الدعوة إلى الله -تعالى-، فطوعوا النصوص لأهوائهم، وحرفوا أحكام الشريعة على مرادهم؛ فمنهم من أحل الحرام البين، ومنهم من فتح الذرائع للمحرم القطعي؛ اتباعا لهوى من يهوون ؛معيدين سيرة المشركين القدماء في إباحة الحرام، حين قال الله -تعالى- فيهم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ}(التوبة: 37).
ويتمادى سوء العمل بصاحبه فيراه حسنا إلى أن يناصب أهل العلم والدعوة العداء، ويحاربهم باسم السنة والعقيدة، فيسلم من شره وإفكه وافترائه كل الملل والنحل والطوائف، ولا يسلم إخوانه منه.
ومن هذا الصنف أقوام استباحوا دماء المسلمين، ووقفوا مع الباطنيين والليبراليين ضد العلماء والدعاة والمصلحين، ووقفوا ضد مؤسسات الدعوة، وحلقات تحفيظ القرآن، وهم يدعون أنهم ينصرون التوحيد، وليس هذا إلا من تزيين سوء العمل حتى رآه أصحابه حسنا -نعوذ بالله -تعالى- من ذلك-.
ومن أبصر سير من ساءت أعمالهم، فزينها الشيطان لهم فرأوها أعمالا حسنة؛ خاف على نفسه الضلال، واجتهد في حراستها عن الانحراف، وأكثر الحوقلة والدعاء بالثبات على الحق، ومجانبة الهوى؛ فإن قلوب العباد بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، وإنه لا حول للعبد ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(آل عمران: 101).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير