نبينا صلى الله عليه وسلم هو المثال والقدوة التي وجَّهنا القرآن الكريم إلى اتِّباعها والسير على خطاها، كي ننال الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِر}(الأحزاب:21)..
وقد حثنا وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم على التعامل بحُسن الأخلاق مع الوالدين والزوجة، والأقرباء والجيران، والعمال والخدم، والفقراء والأيتام، والأصدقاء والأعداء، ومع الناس جميعاً، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وحسنه الألباني. قال ابن عثيمين: "والمعنى: عاملِ الناس بالأخلاق الحسنة بالقول وبالفعل".
ومن هَدْي وخُلُق نبينا صلى الله عليه وسلم في معاملته مع الناس عامة: معاملتهم على حسب ظواهرهم، دون البحث في نياتهم ومقاصدهم، وترك سرائرهم إلى الله تعالى، قال الشاطبي: "إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم". والسيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على معاملة النبي صلى الله عليه وسلم الناس على حسب ظواهرهم، وترك سرائرهم لله عز وجل، ومنها :
1 ـ روى البخاري في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لي: يا أسامة، أقتلْتَه بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال: فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال: فمازال يُكرِّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم)، وفي رواية لمسلم: قال أسامة رضي الله عنه: (قلتُ يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ). وفي رواية ذكرها ابن القيم في زاد المعاد: (أفلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أمْ كاذب؟). وفي رواية لأبي داود وصححها الألباني: (أفلا شقَقتَ عن قلبه حتَّى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟).
هذا الحديث والموقف النبوي مع أسامة بن زيد رضي الله عنه فيه: دلالة واضحة على وجوب الحكم بالظاهر, والتحذير الشديد من تجاوز الظاهر إلى السرائر، والحكم على ما في القلوب دون بينة ودليل، قال الخطابي: "فيه من الفقه أنَّ الكافر إذا تكلَّم بالشهادة وإن لم يصف الإيمان وَجَبَ الكَفُّ عنه والوقوف عن قتله سواء أكان بعد القدرة أم قبلها". وقال ابن حجر: "وفيه دليل على ترتُّب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة".
وقال النووي: "وقوله: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) الفاعل في قوله أقالها: هو القلب، ومعناه أنك إنما كُلِّفْتَ بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال: (أفلا شققت عن قلبه) لتنظر هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنتَ لست بقادرٍ على هذا فاقتصر على اللسان فحسب، يعني ولا تطلب غيره. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلا شققت عن قلبه) فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يُعمل فيها بالظواهر، والله يتولى السرائر، وقول أسامة: (حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ) معناه: لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأت الآن الإسلام ليمحو عني ما تقدم، وقال هذا الكلام من عِظم ما وقع فيه".
2 ـ روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله، وذلك لما قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم ذهيبة (قطعة ذهب صغيرة) ـ بعث بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن ـ على المؤلفة قلوبهم، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: (.. وكم من مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم).
قال النووي: "معناه إني أمرت بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر". وقال ابن حجر: "كلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر"، وقال الشوكاني: "(لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس) فإن ذلك يدل على قبول ظاهر التوبة وعصمة من يصلي، فإذا كان الزنديق قد أظهر التوبة وفعل أفعال الإسلام كان معصوم الدم".
3ـ عن عبيد الله بن عدي رضي الله عنه قال: (إن رجلًا سارَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلمه سراً)، فلم ندْرِ ما سارَّه به حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يستأمر في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال الأنصاري: بلي يا رسول الله، ولا شهادة له، قال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله؟ قال بلي ولا شهادة له، قال: أليس يصلي؟ قال بلى ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم) رواه أحمد وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح.
قال القاضي عياض: "وهذا بخلاف إجراء الأحكام الظاهرة عليهم من حدود الزنا والقتل لظهورها (بالشهادة الشرعية)"، وقال الشوكاني: "وفيه دلالة على أن الواجب المعاملة للناس بما يُعرف من ظواهر أحوالهم من دون تفتيش وتنقيش، فإن ذلك مما لم يتعبدنا الله به، ولذلك قال: (إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس)، وقال لأسامة ـ لما قال له: إنما قال ما قال يا رسول الله تقية يعني الشهادة ـ: (هل شققت عن قلبه؟)، واعتباره صلى الله عليه وسلم لظواهر الأحوال كان ديدناً له في جميع أموره".
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "إن المنافقين الذي قالوا: {آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}(البقرة:8) هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم، ولا موارثتهم، ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي سلول ـ وهو من أشهر الناس بالنفاق ـ ورثه ابنه عبد الله، وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين".
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من اطلاعه على أحوال المنافقين وما تسره أفئدتهم ـ بوحي من الله تعالى له ـ، يعاملهم معاملة المسلمين دون أي تفريق في الأحكام الشرعية العامة، وهذا لا ينافي أن يكون المسلمون في حذرٍ دائم من المنافقين ومؤامراتهم وكيدهم.
هذه المواقف والأمثلة من السيرة النبوية تبين بجلاء أنه ينبغي على المسلم أن يعامل الناس بما يظهر من أقوالهم وأفعالهم، ويترك سريرتهم إلى الله تعالى، وأن المعاملات والأحكام الفقهية والقضائية في هذه الدنيا تجري على مقتضى شرائع الإسلام الموضوعة للعباد وعلى ما يظهر منهم من أفعالهم وأقوالهم, دون إيغال في النيات، أو تحسس في المقاصد، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أمْ لا.. ). وأما في الآخرة فالآثار والنتائج للأفعال تتجاوز الظواهر إلى السرائر والضمائر والنيات، لأن الله تعالى هو الذي يتولاها بنفسه، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}(طه:7).
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
مواقف نبوية