الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:
قال ابن القيم في "مدارج السالكين" :
(الدين كله خلق. فمن زاد عليك في الخلق: زاد عليك في الدين...
وقد قيل : إن حسن الخلق بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذى.
وقيل: حسن الخلق: بذل الجميل، وكف القبيح.
وقيل: التخلي من الرذائل، والتحلي بالفضائل.
وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها:
الصبر والعفة والشجاعة والعدل .
فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة .
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة .
والشجاعة: تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط. فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة. وعلى خلق الشجاعة، الذي هو توسط بين الجبن والتهور. وعلى خلق الحلم، الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس.
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة.
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان:الجهل. والظلم. والشهوة. والغضب.
فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن. والكمال نقصا والنقص كمالا.
والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه. فيغضب في موضع الرضا. ويرضى في موضع الغضب. ويجهل في موضع الأناة. ويبخل في موضع البذل. ويبذل في موضع البخل. ويحجم في موضع الإقدام. ويقدم في موضع الإحجام. ويلين في موضع الشدة. ويشتد في موضع اللين. ويتواضع في موضع العزة. ويتكبر في موضع التواضع.
والشهوة: تحمله على الحرص والشح والبخل، وعدم العفة والنهمة والجشع، والذل والدناءات كلها.
والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد، والعدوان والسفه.
ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة.
وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة.
فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والبخل، والخسة واللؤم، والذل والحرص، والشح وسفساف الأمور والأخلاق.
ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والغضب والحدة، والفحش والطيش.
ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون. فإن النفس قد تجمع قوة وضعفا. فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قُهر، ظالما عنوفا جبارا. فإذا قهر صار أذل من امرأة: جبانا عن القوي، جريئا على الضعيف.
فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضا، كما أن الأخلاق الحميدة: يولد بعضها بعضا.
وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين. وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير. والتواضع: الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة. والكبر والعلو.
فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت: إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت: إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة، بحيث يطمع في نفسه عدوه. ويفوته كثير من مصالحه. ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء. وإنما هو المهانة والعجز، وموت النفس. كذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع. كما قال بعضهم:
تبكي علينا ولا نبكي على أحد فنحن أغلظ أكبادا من الإبل
وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت: إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة. ففرق بين مَن حِلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز، وبين مَن حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف. كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجةٌ لاجئٌ إليها اللئام
وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق والأناة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفت: إما إلى كبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.
وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت: إما إلى حسد، وإما إلى مهانة، وعجز وذل ورضا بالدون.
وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت: إما إلى حرص وكلب، وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة.
وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت: إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة، ولا إقامة حد، وتأديب ولد. ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك. وقد ذبح أرحم الخلق صلى الله عليه وسلم بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة. وقطع الأيدي من الرجال والنساء. وضرب الأعناق. وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم. وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم.
وكذلك طلاقة الوجه، والبشر المحمود؛ فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد، وطي البِشر عن البَشر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد، بحيث يُذهب الهيبة، ويُزيل الوقار، ويُطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلوب الخلق.
وصاحب الخلق الوسط : مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم من رآه بديهة هابه. ومن خالطه عِشْرَةً أحبه والله أعلم).