شارك النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته في بعض أحداث مجتمعه وقومه وقضاياهم المهمة، مع رفضه وبعده التام عن كل معتقداتهم الوثنية وأخلاقهم الفاسدة وتصوراتهم الخاطئة. فاشترك صلى الله عليه وسلم معهم في حرب الفجار، وشاركهم بعدها بأربعة أشهر في حلف الفضول، وفي سن الخامسة والثلاثين ساهم وشارك معهم في بناء وتجديد الكعبة، ثم حكّمته قريش فيمن يضع الحجر الأسود مكانه، فقد كان صلى الله عليه وسلم محل أنظار مجتمعه، ومضرب المثل فيهم، حتى لقبوه بالصادق بالأمين.
حرب الفِجار:
هي تلك الحرب التي وقعت ـ قبل البعثة النبوية ـ بين قريش ومن معها من كنانة من جهة، وقيس عيلان وأحلافها من جهة، وسميت بحرب الفجار لوقوعها في الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وإنما سُمي يوم الفجار بما استحل فيه هذان الحيان كنانة وقيس عيلان من المحارم بينهم، وقيل لأن البراض قتل عروة في الشهر الحرام". وقال ابن هشام في السيرة النبوية: "فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة، وبين قيس عيلان ... وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت أُنبل على أعمامي . أي أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم بها".
وكانت حرب الفجار لقريش دفاعاً عن قداسة الأشهر الحرم، ومكانة أرض الحرم، وقد نفى البعض مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، قال الدكتور أكرم العمري وغيره: "ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهدها"، وعلى قول من قال بمشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحرب قبل بعثته فقد كان دوره فيها كما روي عنه: (كنت أنبل على أعمامي) أي: أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها، حماية لهم ورحمة بهم، بموجب الرحم الواصلة، لا بموجب الحرب التي أحلت فيها الحرمات والأشهر الحرم. قال السهيلي: "ولم يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعمامه، وكان ينبل عليهم (يرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم بها).. لأنها كانت حرب فجار، وكانوا أيضاً كلهم كفاراً، ولم يأذن الله تعالى لمؤمن أن يقاتل إلا لتكون كلمة الله هي العليا".
حلف الفضول :
كان حلف الفضول بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وسببه أن رجلا من زبيد (بلد باليمن) قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة، فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه. وفي رواية ابن هشام في السيرة النبوية: "فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكَّة مَظْلوماً من أهلها وغيرهم ممَّن دخلها من سائر النَّاس إلا قاموا معه، وكانوا على مَن ظلمه حتى تُرَدَّ عليه مَظْلمته، فسمَّت قريشٌ ذلك الحِلْف: حِلْف الفُضُول". وفي هذا الحلف قال الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا ألا يقيم ببطن مكة ظالـــم
أمر عليه تعاقــدوا وتواثقــوا فالجار والمُعترّ (الزائر) فيهم سالم
وبنود وروح هذا الحلف تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية القبلية تثيرها، إذ كان حِلْفاً من أجل نُصْرَة المظْلوم، وميثاقاً تنادت فيه المشاعر الإنسانية للدفاع عن الحق، ومن ثم يُعتبر من مفاخر العرب قبل الإسلام، قال ابن كثير: "وكان حلف الفضول أكرم حلف سُمِعَ به، وأشرفه في العرب"، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (لقد شَهِدتُ مع عمومَتي حِلفاً في دار عبد الله بن جُدعان ما أُحبُّ أن لي بهِ حُمْرَ النَّعَمِ، ولَو دُعيتُ بهِ في الإسلام لأجبتُ) رواه أحمد والبيهقي.
مشاركة النبي في بناء الكعبة:
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة ـ قبل بعثته ونبوته بخمس سنوات ـ اجتمعت قريش لتجديد بناء الكعبة لما أصابها من تصدع جدرانها، وكانت لا تزال كما بناها إبراهيم عليه السلام رضما (حجارة) فوق القامة، فأرادوا هدمها ليرفعوها ويسقفوها ولكنهم هابوا هدمها، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام يهدمها وهو يقول : اللهم لم نزغ، ولا نريد إلا الخير.. وقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم قومه في تجديد وبناء الكعبة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما بُنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزَارَك على رقبَتِكَ يَقِيكَ الحجارة) رواه البخاري.
ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود دبَ الشقاق بين قبائل قريش، فكل منهم يريد أن ينال شرف رفع الحجر إلى موضعه، وكادوا أن يقتتلوا فيما بينهم، حتى جاء أبو أمية بن المغيرة المخزومي فاقترح عليهم أن يحكّموا فيما اختلفوا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد الحرام ، فوافقوا على اقتراحه وانتظروا أول قادم، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما إن رأوه حتى هتفوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، وما إن انتهى إليهم حتى أخبروه الخبر فقال: (هلمّ إليَّ ثوباً)، فأتوه به فوضع الحجر في وسطه ثم قال: (لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا) ففعلوا، فلما بلغوا به موضعه، أخذه بيده الشريفة ووضعه في مكانه.. ومن ثم فقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم قريش في تجديد بناء الكعبة، ووضع هو الحجر الأسود مكانه بيده الشريفة، وحاز الشرف الذي كادوا يقتتلون عليه جميعاً، وهذه من أول المقدمات للتكريم، ومن اعترافات قريش له صلى الله عليه وسلم بأنه الأمين.
لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم في مطلع حياته مع قومه، يشاركهم في الخير، ويتجنبهم في الشر، فهو يعقل ما يتفق مع الفطرة المستقيمة التي فطره الله عليها، والمنهاج القويم الذي هداه الله تعالى إليه، وأدبه بأدبه! وقد أجمعت الأمة على أن حياة نبيها صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وبعدها أمثل حياة وأكرمها وأشرفها، فلم تُعرف له فيها هفوة، ولم تُحص عليه فيها زلة، بل إنه امتاز بسمو الخلق، ورجاحة العقل، وعظمة النفس، فقد تولاه الله تعالى منذ صغره وأدبه وأحسن تأديبه، ورباه فكمله، وحفظه مما كان يشين حياة قومه من وثنية مستقبحة، وعادات مسترذلة، حتى أصبح أكمل إنسان فى بشريته.
قال ابن هشام في السيرة النبوية: "فشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى سمي في قومه الأمين، لِما جمع الله فيه من الأمور الصالحة"، وقال القاضي عياض: "وأما وفور عقله صلى الله عليه وسلم، وذكاء لبه، وقوة حواسه، وفصاحه لسانه، واعتدال حركته، وحسن شمائله، فلا مرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم".