سمة بارزة من سمات أهل السنة، وعلامة فارقة يتميز بها أصحاب المنهج السديد، منهج أهل الهدى عن مناهج أهل الردى، وطرق الباطل، وموارد الضلال، ألا وهي: "سلامة الصدور نحو أصحاب الرسول".
هذه عقيدة من عقائد أهل السنة، نادى بها علماؤهم، ولهجت بها ألسنتهم، وسطرها يراعهم، وعلموها أتباعهم، وقيدوها في كتبهم ومؤلفاتهم، وجعلوها من أولويات عقائدهم فلا تكاد ترى مؤلفا في العقيدة إلا وقد ضمنوها فيه:
يقول الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة بالعقيدة الطحاوية: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم).
ويقول الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام، وفارس مضمار الذب عن الصحابة عليهم الرضوان:
يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي .. رزق الهدى من للهداية يسأل
اســمع كلام محـــقق في قـوله .. لا يــنثــني عــنه ولا يـتـبــدل
حب الصحـابة كلهم لي مذهب .. ومودة القــربى بــها أتوســل
ولكــلهم قـــدر وفضــل ذائـــع .. لا سيـما الصديق منهم أفضل
هَــذَا اعْتِقَــادُ الشَّــافِعِيِّ وَمالِكٍ .. وَأَبُي حَــنِيفَةَ ثُمَّ أَحْــمَدَ يَنْـــقِلُ
فَإِنِ اتَّبَعــْتَ سَبِــيلَهُمْ فَمُـــوَفـق .. وَإِنِ ابْتَدَعْتَ فَمَا عَلَيْكَ مُعَوَّلُ
وقال عبد الله بن الإمام أبي داود السجستاني صاحب السنن:
وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولا تك طعانا تعيب وتجرح
فقد نطق الوحي المتين بفضلهم ... وفي الفتح آي للصحابة تمدح
فضيلة الصحابة:
الصحابة هم أعلام الفضيلة، ودعاة الهداية، وحملة الدين، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وحمل رسالته، نشر الله بهم الإسلام في أنحاء المعمورة، وأنقذ بهم البشرية من أغلال الوثنية، وأرسى بهم قواعد الحق والخير والعدل، ورفع بهم كلمته حتى علت على الأرض، ورفرف علم الإسلام في الأفاق، وقويت أسبابه، ووضحت أعلامه، وتهذبت طرقه، وأذل الله بهم الشرك ومحا دعائمه، وأزال رؤوسه.
قاموا بمعالم الدين، والنصح للعالمين، والبذل والاجتهاد ليصل الإسلام إلى الخلق أجمعين.. ولاقوا في سبيل نشر الدين ما لاقوه {فما وهنـوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا}. فلهم الفضل بعد الله تعالى علينا، ولولاهم ـ بعد توفيق الله ـ ما وصل هذا الدين إلينا.
ما زالوا يجاهدون في سبيل الله ويبذلون قصارى جهدهم، من أجل تبليغ كلمة الله، حتى فتح الله عليهم البلاد، وملكهم رقاب العباد، وأورثهم ملك كسرى وقيصر، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وفتحت عليهم الدنيا فما مالوا إلى دعة، ولا ركنوا إلى راحة، ولا هفت نفوسهم إلى زخارفها ومباهجها. فهذا قائلهم يقول للدنيا، لما رآها أقبلت عليه، وأرادت أن تميل بزخرفها إليه: "يا دنيا غري غيري، أبي اغتررت أم إلي تشوفت؟ هيهات.. هيهات.. لقد بتتك ثلاثا؛ فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير.. آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق".
صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الغداة، ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح، وكأن عليه كآبة، ثم قال: "لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أحدا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثا صفرا غبرا بين أعينهم مثل ركب المعزى، قد باتوا لله سجدا وقياما، يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين". ثم نهض فما رئي مفترا يضحك حتى ضربه بن ملجم.
من هو الصحابي؟
قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "الصحابي هو من لقي رسول الله مؤمنا به، ومات على الإسلام.
وقال أيضا: "ومن صحب رسول الله أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه".
قال الإمام أحمد: "فكل مسلم طالع وجه رسول الله، ونظر إليه ولو نظرة، فقد نال هذا الشرف العظيم، وفاز بهذا المقام الكريم، وصار من صحابة سيد المرسلين، وفاز بفضيلة الصحبة التي لا تعدلها فضيلة".
فضيلة الصحبة
إنما تكون فضيلة الصحبة بفضل الصاحب، والمرء على دين خليله، فإذا كان المصحوب سيد البشر فأي صحبة تبلغ صحبته، وأي عمل يبلغ به من لم يره مبلغ من رأى صورته؟
ومن ثم ذهب جمهور أهل السنة إلى أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل ولا يبلغها أجل. فمن طالع وجه المصطفى بنظرة لم يعدله أحد ممن أتى بعده، ولو أنفق كل ماله وأهله ونفسه في النصرة، ولو عبد الله حتى قطع بالعبادة ظهره.
قال الإمام أحمد في عقيدته: "فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه، ولو لقوا الله بجميع الأعمال".
وقال أيضا: "ومن رآه بعينه وآمن به ولو ساعة أفضل، لصحبته، من التابعين ولو عملوا كل أعمال الخير".
وقال الإمام النووي: "وفضيلة الصحبة، ولو لحظة لا يوازيها عمل، ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بالقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
فالصحبة محض فضل من الله، واصطفاء اصطفى الله له من علم سبحانه أنهم أحق بها وأهلها.
قال ابن مسعود: "إنَّ اللَّهَ نَظرَ في قُلوبِ العِبادِ فوَجدَ قَلبَ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خَيرَ قُلوبِ العبادِ فاصطَفاهُ لنَفسِهِ، وابتَعثَهُ برسالتِهِ. ثمَّ نَظرَ في قُلوبِ العِبادِ بعدَ قلبِهِ، فَوجدَ قُلوبَ أصحابِهِ خيرَ قلوبِ العِبادِ بعدَهُ، فجَعلَهُم وزراءَ نبيِّهِ، يقاتِلونَ علَى دينِهِ. فما رآهُ المسلِمونَ حَسنًا فَهوَ عندَ اللَّهِ حَسَنٌ، وما رآهُ المسلِمونَ سيِّئًا فَهُوَ عندَ اللَّهِ سَيِّءٌ".(منهاج السنة 277، والأمالي المطلقة لابن حجر:65).
وقال أيضا: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وحمل رسالته، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
عدالة الصحابة أجمعين:
العدالة: هي الخلو عن موارد الطعن، والسلامة مما يخرم المروءة. وقد اتفقت كلمة أهل السنة على عدالة الصحابة أجمعين.
قال ابن حجر العسقلاني: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة".
وقال ابن عبد البر: "ثبتت عدالة جميعهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة"(الاستيعاب:1 /8).
وقال ابن الأثير: "كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح".
وقال ابن حزم: "الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا". "الإصابة 1/19".
واستدل بقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}(الحديد:10)، والحسنى هي الجنة.
فالصحابة أزكى الناس، وأطهرهم، وأكملهم، وأكرمهم، باختيار الله لهم وشهادته ورسوله بفضائلهم. وقد دل على فضلهم القرآن والسنة والاعتبار الصحيح.
فأما القرآن: فقد شهد الله لهم فيه بالخيرية والوسطية والصدق، والفلاح، وشهد أنه تاب عليهم ورضي عنهم، وشهد لهم أنهم من أهل الجنة.
فأما الخيرية فقد قال تعالى: {كنتم خير أمة}، وهذا كلام للأمة يتوجه به إلى الصحابة فهم أولى الناس به، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: [خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم](متفق عليه).
وأما الوسطية وهي العدالة؛ وقد جعلهم شهودا على الأمم والناس، كما في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}
وشهد أنه تاب عليهم وعفا عنهم في آيات كثيرة: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} ،
ورضي عنهم {لـَّقدْ رَضِى اللهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايـِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجرَةِ فَعَلِم ما فِى قـُلـُوبهِم فَأنزَلَ عليهِمْ السَّكينَةَ وأثابَهُم فتحًا قرِيبا}.
وشهد لهم بالصدق والفلاح فقال في المهاجرين: {أولئك هم الصادقون}(الحشر:)، وقال عن الأنصار: {فأولئك هم المفلحون}(الحشر:)
وأما رضاه عنهم، وإدخالهم الجنة ففي قوله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(التوبة:100).
مدح النبي لهم:
روى الإمام مسلم عن أبي موسى الأشعري عن سيدنا النبي قال: [النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون].
وفي الصحيحين عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: [آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار](متفق عليه).
وفي الصحيحين أيضا: [الأنصارُ لا يحبُّهم إلَّا مؤمنٌ، ولا يبغضُهم إلَّا منافقٌ، فمن أحبَّهم أحبَّهُ اللَّهُ، ومن أبغضَهم أبغضَهُ اللَّه].
وفي البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه مرفوعا: [لعل الله اطلع الي أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة. أو فقد غفرت لكم].
وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة]( رواه الترمذي وقال: حسن صحيح).
النهي عن سبهم أو انتقاصهم:
فلما كان هذا قدرهم، أو بعض فضلهم، كما نطق الكتاب والسنة، وشهد به الواقع والتاريخ؛ نهى الشرع عن سبهم، أو انتقاصهم، أو الوقوع فيهم، أو الطعن في دينهم:
فقال صلى الله عليه وسلم: [لا تسبوا أصحابي. لا تسبوا أصحابي. فوالذي نفسي بيدِه! لو أن أحدَكم أنفق مثلَ أحدٍ ذهبًا، ما أدرك مدَّ أحدِهم، ولا نصيفَه](والحديث رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم).
وسبب الحديث أنه كان بين خالدِ بنِ الوليدِ وبين عبدِالرحمنِ بنِ عوف شيءٌ، فسبَّه خالدٌ. فنهاه النبي وذكر الحديث.
فإذا كان مثل هذا يقال لخالد بن الوليد وهو من الصحابة ولكنه أسلم متأخرا، فكيف بمن ليسوا صحابة، ولا حتى تابعين، بل وكيف بغيرهم من المتأخرين؟
وفي صحيح ابن حبان وشعب الإيمان للبيهقي عن عبد الله بن مغفل عن النبي الأكرم أنه قال: [اللهَ اللهَ في أصحابِي، لا تتّخذوهُم غرضًا بعدِي فمن أحبهُم فبِحُبي أحبهُم، ومن أبغضهُم فببغضِي أبغضهُم، ومن آذاهُم فقد آذانِي، ومن آذانِي فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشِكُ أن يأخذهُ](وقد رواه الترمذي أيضا وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه).
فإذا جاء بعد كل ذلك من يسبهم أو ينتقصهم أو يتقرب إلى الله بلعنهم أو يتهمهم بكفر أو فسق فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وقد روى ذلك بسند ضعفه بعضهم، وحسنه ابن حجر العسقلاني في الأمالي المطلقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله اختارني واختار لي أصحابا، وجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا].
وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما بسند حسنه الألباني والشوكاني والهيثمي أنه صلى الله عليه وسلم قال: [لعَنَ اللهُ مَنْ سبَّ أصحابِي].
قال الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يذكر أحدا من أصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على إسلامه.
قال أبو زرعة: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة.. وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة".
فاللهم ارض عن أصحاب نبيك، واجعلنا من أحبابهم وأتباعهم، وممن قلت فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(الحشر:10).