لما صدع النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، ودعا أهل مكة إلى التوحيد وترْك عبادة الأصنام، لقي من قريش عنتاً وشدة، وإعراضاً وإيذاءً، وكان أبو جهل من أوائل وأشد المشركين إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وأبو جهل كنية لعدو الله عمرو بن هشام، كنَّاه بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يُكنى بأبي الحكم، وذلك لشدة عداوته وإيذائه للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال ابن القيم: "وكذلك تكنيته صلى الله عليه وسلم لأبي الحكم بن هشام بأبي جهل، كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحق الخَلْق بهذه الكنية".
ومن مواقف وصور الإيذاء والعداء من أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم، التي سجلتها السيرة النبوية، وذُكِرت في كتب التفسير: محاولته ضرب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند الكعبة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال أبو جهل: هل يعفّر محمَّد وجهه بين أظهركم (بالسجود والصلاة)؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، أو لأعفرنَّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم (بغتهم) منه إلا وهو ينكص (يرجع) على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عُضْوَاً عُضواً).
قال القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "(فقيل له) أي: لأبي جهل (ما لك)؟ أي: ما حصل لك من المنع، وما وقع لك من الدفع، فقال: (إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهَوْلاً)، أي: خوفاً وأمراً شديداً (وأجنحة) المراد أجنحة الملائكة الذين يحفظونه، ويؤيده ما ذكره الراوي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا مني) أي: قرب عندي (لاختطفته الملائكة) أي: استلبته بسرعة (عُضْوَاً عضواً)، والمعنى لأخذ كل مَلَك عضوا من أعضائه".
وقال القاضي عياض: "هذا من جملة آياته عليه الصلاة و السلام وعلامات نبوته، ولهذا الحديث أمثلة كثيرة فى عصمته من أبى جهل وغيره ممن أراد ضره، وحماية الله له بما ذكر، وتلك الأجنحة أجنحة الملائكة، والله أعلم". وقال ابن هبيرة: "في هذا الحديث ما يدل على آية كاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله سبحانه وتعالى حماه من كيد الكفار بما ذكر، مما أراه الله إياه من خنادق النار وأجنحة الملائكة. وقوله: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) مما يشد قلوب المؤمنين، وأن الله سبحانه وتعالى أخر ذلك عن الكافر إلى يوم بدر، نقلاً إلى أيدي المؤمنين، ليسلمه الله سبحانه للمؤمنين، ليوافِ قتله يوم بدر، فنزلت فيه هذه الآيات (آيات سورة العلق)".
وقد روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: (قال أبو جهل: لئن رأيتُ محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: (لو فعل لأخذته الملائكة). قال ابن حجر: "وإنما شُدّد الأمر في حق أبي جهل، ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط حيث طرح سلى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي؛ لأنهما وإن اشتركا في مطلق الأذية حالة صلاته، لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبإرادة وطء العنق الشريف، وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة لو فعل ذلك".
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فزبره (نهره) فقال: أبو جهل: إنك لتعلم ما بها -أي في مكة- نادٍ أكثرُ مني، فأنزل الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُو الزَّبَانِيَةَ} (العلق:17-18)، قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (العلق:9-18) {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (العلق:9-10) نزلت في أبي جهل -لعنه الله- توعَّد النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت، فوعظه الله تعالى بالتي هي أحسن أولاً، فقال: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} (العلق:11) أي: فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله، {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} (العلق:12) بقوله، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته، ولهذا قال: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (العلق:14) أي: أما عَلِم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء. ثم قال تعالى متوعداً ومهدداً: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} أي: لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} أي: لنَسِمَنَّ ناصيته سواداً يوم القيامة. ثم قال: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} يعني: ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعالها، {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي: قومه وعشيرته، أي: ليدعهم يستنصر بهم، {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وهم ملائكة العذاب، حتى يعلم من يغلب: أحزبنا أو حزبه.. وقوله: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ} يعني: يا محمد، لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصلِّ حيث شئت ولا تباله، فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس".
ومن صور العداء الشديد من أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم، ما ذكره القرطبي عند تفسيره قول الله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} (الجاثـية:23) قال: "قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له: مه! وما دلك على ذلك؟! قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن!! والله إني لأعلم إنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إِنِ اتَّبَعْتُهُ أبداً، فنزلت: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}".
وقال ابن القيم في كتابه "هداية الحيارى": "سأل المسور بن مخرمة خاله أبا جهل عن حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال: يا خالي! هل كنتم تتهمون محمداً بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: يابن أختي، والله! لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذباً قط، قال: يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟ قال: يابن أختي! تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب (جلسنا على الركب للخصومة) كنا كفرسي رهان (متساويين في الفضل)، قالوا: منا نبي، فمتى ندرك مثل هذه؟!. وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟".
ورغم علم وشهادة أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة إلا أنه لم يؤمن به؛ حسداً واستكباراً، وقد قال الله عنه وعن أمثاله -من أهل الكتاب وغيرهم- ممن كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمنوا به، وهم يعلمون صدقه ونبوته: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33)، قال ابن كثير: "أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم، كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن عليّ رضي الله عنه قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}".
لقد كان أبو جهل -فرعون هذه الأمة- شديد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكم لاقى المسلمون من إيذائه واستهزائه، وظل مستكبراً حتى آخر لحظات حياته، وقد شاء الله تعالى أن يكون مقتله في غزوة بدر على يد غلامين صغيرين (معاذ بن الجموح ومعاذ بن عفراء) وأحد ضعفاء المسلمين (عبد الله بن مسعود) الذي كان نحيل البدن، قصير القامة، وقد دُفِن أبو جهل في قليب بدر بعد أن تعفنت جثته وجثث أقرانه من طغاة قريش، الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل المعركة بأسمائهم، كما ذكر ذلك مسلم في "صحيحه" عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وذكر السابع، ولم أحفظه، فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيت الذين سَمَّى صرعى (قتلى) يوم بدر، ثم سُحِبوا إلى القليب قليب بدر)، وفي ذلك عبرة للذين يصدون عن سبيل الله، ويعتدون على الضعفاء ويظلمونهم، ويغترون بقوتهم ومكانتهم، فمآل هؤلاء الطغاة الظلمة -في كل زمان ومكان ـ إلى عاقبة سيئة في الآخرة، وقد يُمَكِّن الله عز وجل للضعفاء والمظلومين منهم في الدنيا، كما حدث لأبي جهل يوم بدر، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص:5). قال السعدي: "{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ} بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف، ونهلك من قاومهم، ونخذل من ناوأهم. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} في الدين، وذلك لا يحصل مع استضعاف، بل لا بد من تمكين في الأرض، وقدرة تامة، {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} للأرض، الذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة".
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من البعثة إلى الهجرة