(القصد) في اللغة: الوسط العدل بين طرفين، و(المقتصد) الفاعل للقصد، وهو التوسط بين طرفين. وقد يطلق (المقتصد) على الذي يتوسط حاله بين الصلاح وضده. قال في "لسان العرب": "القصد: استقامة الطريق، قصد يقصد قصداً، فهو قاصد...وطريق قاصد: سهل مستقيم". و(الاقتصاد) الاعتدال في العمل، وهو من القصد، و(القصد) إتيان الشيء، تقول: قصدته، وقصدت له، وقصدت إليه بمعنى.
ولفظ (قصد) قليل الحضور في القرآن الكريم، فقد ورد في ستة مواضع فقط، ورد في خمسة منها بصيغة الاسم، وورد في موضع واحد بصيغة الفعل. وتالياً نقف مع هذه المواضع الستة مبينين ما ورد في المراد من هذا اللفظ فيها:
أولاً: قوله تعالى مخبراً عن أهل الكتاب: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة} (المائدة:66) قال الطبري: {مقتصدة}، يقول: مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم، قائلة فيه الحق، أنه رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، لا غالية قائلة: إنه ابن الله، تعالى الله عما قالوا من ذلك، ولا مقصرة قائلة: هو لغير رشدة". وروي عن الربيع بن أنس في قوله: {منهم أمة مقتصدة} قال: فهذه الأمة المقتصدة، الذين لا هم جَفَوْا في الدين، ولا هم غلوا. قال: و(الغلو)، الرغبة عنه، و(الفسق)، التقصير عنه.
وقال القرطبي: "هم المؤمنون من أهل الكتاب، كالنجاشي، وسلمان، وعبد الله بن سلام، اقتصدوا، فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما. وقد: أراد بـ (الاقتصاد) قوماً لم يؤمنوا، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين".
وقال ابن عاشور: "المقتصد يطلق على المطيع، أي: غير مسرف بارتكاب الذنوب، واقف عند حدود كتابهم؛ لأنه يقتصد في سرف نفسه، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشق الآخر: {ساء ما يعملون} (المائدة:66). وقد عُلِم من اصطلاح القرآن التعبير بـ (الإسراف) عن الاسترسال في الذنوب، قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر:53)، ولذلك يقابل بـ (الاقتصاد)، أي: الحذر من الذنوب، واختير (المقتصد) لأن المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة، كقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} (فاطر:32).
ثانياً: قوله سبحانه مخبراً عن سلوك المنافقين: {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك} (التوبة:42) قال الطبري: {وسفرا قاصدا} يقول: وموضعاً قريباً سهلاً. وقال القرطبي: {وسفرا قاصدا} أي: سهلاً، معلوم الطرق. وقال ابن عاشور: سفراً متوسطاً. وكل هذه الأقوال قريبة في المعنى.
ثالثاً: قوله عز وجل مخبراً عن بعض نعمه على عباده: {وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين} (النحل:9) قال الطبري: "وعلى الله -أيها الناس- بيان طريق الحق لكم، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، و{السبيل} هي الطريق، و(القصد) من الطريق: المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: {وعلى الله قصد السبيل} يقول: البيان، أن يبين الهدى والضلالة. وعن مجاهد {وعلى الله قصد السبيل} قال: طريق الحق على الله. وعن قتادة في قوله: {وعلى الله قصد السبيل} يقول: على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
وقال القرطبي: أي على الله بيان قصد السبيل، و{السبيل}: الإسلام، أي على الله بيانه بالرسل والحجج والبراهين. و{قصد السبيل}: استعانة الطريق، يقال: طريق قاصد، أي يؤدي إلى المطلوب.
وقال ابن عاشور: "القصد: استقامة الطريق. وقع هنا وصفاً لـ (السبيل) من قبيل الوصف بالمصدر؛ لأنه يقال: طريق قاصد، أي: مستقيم، وطريق قَصْدٌ؛ وذلك أقوى في الوصف بالاستقامة، كشأن الوصف بالمصادر، وإضافة {قصد} إلى {السبيل} من إضافة الصفة إلى الموصوف".
رابعاً: قوله عز من قائل في وصية لقمان لابنه: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} (لقمان:19) قال الطبري: "وتواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر، ولا تستعجل، ولكن اتئد. وأهل التأويل منهم من قال: أمره بالتواضع في مشيه، روي عن مجاهد {واقصد في مشيك} قال: التواضع. وعن قتادة {واقصد في مشيك} قال: نهاه عن الخيلاء. ومنهم من قال: أمره بترك السرعة فيه. روي عن يزيد بن أبي حبيب في قوله: {واقصد في مشيك} قال: من السرعة.
وقال القرطبي: "أي: توسط فيه. و(القصد) ما بين الإسراع والبطء، أي لا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثب الشطار".
وقال ابن عاشور: "القصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر، وطرف الدبيب، يقال: قصد في مشيه. فمعنى اقصد في مشيك: ارتكب القصد".
خامساً: قول الحق تعالى واصفاً حالة الإنسان وقد شارف على الهلاك: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} (لقمان:32) قال الطبري: {فمنهم مقتصد} يقول: فمنهم مقتصد في قوله وإقراره بربه، وهو مع ذلك مُضْمِرٌ الكفر به. وروي عن مجاهد قوله: {فمنهم مقتصد} قال: المقتصد في القول، وهو كافر. قال ابن زيد في قوله: {فمنهم مقتصد} قال: المقتصد الذي على صلاح من الأمر.
ونقل القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: {فمنهم مقتصد} قال: موفٍ بما عاهد عليه الله في البحر. وقال الحسن: {مقتصد} مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة. وقال النقاش: يعني عدل في العهد، وفَّى في البر بما عاهد عليه الله في البحر.
سادساً: قول الباري تعالى مخبراً عن أصناف عباده المؤمنين: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} (فاطر:32) روى الطبري عن مجاهد في قوله: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه} قال: هم أصحاب المشأمة، {ومنهم مقتصد} قال: هم أصحاب الميمنة، {ومنهم سابق بالخيرات} قال: هم السابقون من الناس كلهم.
وقال القرطبي: "روي عن عكرمة، وقتادة، والضحاك، والفراء، أن (المقتصد) المؤمن العاصي، و(السابق) التقي على الإطلاق. وقال محمد بن يزيد: (المقتصد) هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها".
وحاصل ما تقدم، أن لفظ (قصد) في القرآن الكريم ورد على عدة معان؛ فورد بمعنى المعتدل في القول غير مفرِّط ولا مُفْرط، وبمعنى السهل، وبمعنى المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، وبمعنى البيان، وبمعنى التواضع والتوسط، وبمعنى الموفي بالعهد، وبمعنى المؤمن العاصي. وكل هذه المعاني ترجع إلى الأصل اللغوي لمادة (قصد) وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
ألفاظ قرآنية