تعد قضية التعارض بين طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل من أكثر القضايا الساخنة في أدبيات الصحوة الإسلامية اليوم، ويأخذ نقاش هذه القضية مكاناً رحباً في الكتابات الدعوية، وفي المناقشات والمداولات، وفي التساؤلات التي تطرح على المهتمين، بل إنها تعتبر من أكثر القضايا التي تطرح في ميدان الصراع والتنافس في ساحة العمل الإسلامي.
ومنشأ الصراع والجدل حول هذه القضية يتمثل في أن فئة من الناس ترى أن ارتباط العلم بالدعوة ارتباط وثيق؛ فالدعوة دون علم دعوة بلا رصيد، بل حقيقة الدعوة هي تبليغ ما يعلمه المرء من الدين للناس، ومن ثم فلا يسوغ -لدى هؤلاء- المشاركة في الدعوة لمن لم يتأهل التأهل العلمي الكافي.
وتنظر فئة أخرى إلى أن مشكلات المسلمين اليوم عديدة، وأنها تحتاج لحشد الطاقات وجمع الجهود. والتفرغ للتحصيل العلمي يعطل كثيراً من هذه الطاقات التي يحتاج إليها، ويضيف هؤلاء أن طلب العلم لا ينتهي بصاحبه إلا حين يغادر الدنيا، ثم إن كثيراً من مشكلات المسلمين -في نظر هؤلاء- لا تحتاج إلى كبير علم في معالجتها ومواجهتها.
ومهما حاول كاتبٌ البحث المستفيض للقضية والسعي لوضع النقاط على الحروف في هذه القضية فستبقى مجالاً للنقاش والأخذ والعطاء، فحجم هذه القضية أكبر من أن يحيط به كاتب غير مبرأ من الهوى والمقررات السابقة، لكنها محاولة لوضع إضاءات على الطريق علها أن تقرب المسافة بين فئات ممن يعيشون جدلاً حول هذا القضية.
1 - لاشك أن العلم الشرعي ضرورة ملحة، وأن جزءاً من مشكلات الأمة اليوم يعود إلى الجهل بحقيقة الدين، ومن ثم فجيل الصحوة يجب أن يضع التحصيل العلمي ضمن أولوياته، ويجب على المؤسسات والجمعيات الإسلامية أن تضع رفع المستوى العلمي ضمن برامجها التي تقدمها للمنتمين لها، وأن تسعى لمحو الأمية الشرعية لدى العاملين للإسلام مهما كان ميدانهم.
2 - وكما أن الصحوة يراد منها تربية ناشئتها على طلب العلم والعناية به، فعليها كذلك أن تساهم في نشره والدعوة إليه، وأن تقوم بتبني برامج لتعليم الناس، وأن تستفيد من معطيات التقدم المادي ونتاج التقنية المعاصرة في ذلك.
3 - لا ينبغي التهوين من شأن العلم وقيمته، أو احتقار من يعنى بطلبه وجمع مسائله.
4 - التصدر للدعوة ولعامة الناس، واتخاذ المواقف التي تسير الدعوة ينبغي أن يكون لطلبة العلم الناضجين، والإخلال بذلك يحول الدعوة إلى ميدان من التخبط والاضطراب، ويفتح مجالاً واسعاً للآراء الشخصية والاجتهادات الفردية، ويؤدي إلى الانحراف والزيغ.
5 - دعوة عامة المسلمين لترك المنكرات الظاهرة، وفعل الواجبات المعلومة من دين الله بالضرورة، أمر يجب على المسلمين أجمع، وليس قاصراً على طلبة العلم وحدهم.
6 - دعوة المرء لأمر محدد يعلمه، ونشره للعلم في حدود ما يعلم أمر ربى النبي صلى الله عليه و سلم عليه أصحابه؛ إذ أمر النبي صلى الله عليه و سلم مالك بن الحويرث وأصحابه حين انصرفوا أن يعلموا قومهم، كما روى ذلك هو إذ يقول: "أتينا النبي صلى الله عليه و سلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا اشتقنا أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه وكان رفيقا رحيما فقال:[ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبرك](البخاري ومسلم)، والمدة التي قضاها مالك وأصحابه غير كافية للتأهل العلمي التام.
وقال صلى الله عليه و سلم :[بلغوا عني ولو آية](البخاري)، وقال: [نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه](أبو داود والترمذي).
7 - هناك مشاركات دعوية مهمة يمكن أن يقوم بها كل فرد مسلم مهما قل نصيبه من العلم مادام قادراً عليها، ومن ذلك: الأعمال الإغاثية، والأدوار التنظيمية في المؤسسات الدعوية، والأعمال المساندة للدعاة وأهل العلم كالرصد والأرشفة والتوثيق، وهي أدوار حين ترتبط بطلاب العلم تمثل إهداراً لطاقاتهم، وربما إشغالاً لهم بما لا يحسنون، وتعلمهم لذلك يفوت عليهم أوقاتاُ هم أحوج إلى صرفها لميادين العلم والتعليم .
8 - هناك أعمال دعوية ضرورية يحتاج فيها إلى أصحاب التخصصات كالترجمة والكتابة الأدبية والنقد، والأعمال المالية، والتطوير الإداري وغيرها... وكل هذه اليوم من ضرورات العمل الدعوي.
9 - حين لا يوجد لدى أحد من الشباب الحماس والقدرة والميول للعلم الشرعي فينبغي ألا تبدد طاقته في ذلك وأن يصرف جهده إلى ما يفيد، وإلى ذلك يشير ابن القيم إذ يقول :« ومما ينبغي أن يتعمد حال الصبي ، وما هو مستعدٌ له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدٌ له لم يفلح، وفاته ما هو مهيأ له»(تحفة المودود).