لله - تبارك وتعالى- منح وعطايا ومواهب يمنحها لعباده ويهبها لهم في كل حين؛ يمحو بها الخطايا ويكفر بها السيئات ويرفع الدرجات ويقيل العثرات. فقد شرع لنا - جل وعلا -شهراً نصوم فيه، وشهراً نحج فيه، وسن لنا يوماً أو أياما من بعض الشهور نصومها، وشرع كذلك قيام الليل وصلاة الوتر والأضحية والعقيقة وغير ذلك من أنواع العبادات المختلفة المتنوعة، كل ذلك منه - جل وعلا - تنويعاً لسبل الخير والطاعات وتنشيطاً للنفس عندما تنتقل من نوع من الطاعات إلى نوع آخر فلا يمل الإنسان ولا يكل من طاعة الله، وتلك نعمة من نعم الله علينا، وذلك فضله سبحانه وتعالى.
فالحمد لله القائل في كتابه العزيز: {وربك يخلق ما يشاء ويختار}[القصص:68]، والاختيار هو الاجتباء والاصطفاء الدال على ربوبيته ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته.
ومن اختياره وتفضيله، اختياره بعض الأيام والشهور وتفضيلها على بعض، وقد اختار الله من بين الشهور أربعة حُرما، قال عنها: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم}[التوبة:36]، وهي مقدرة بسير القمر وطلوعه لا بسير الشمس وانتقالها كشأن الأمم الأخرى.
والأشهر الحرم وردت في الآية مبهمة ولم تحدد أسماؤها، وجاءت السُنة بذكرها؛ فعن أبي بكرة - رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - خطب في حجة الوداع وقال في خطبته: [إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القَعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان](متفق عليه).
وهذه الأشهر حرمها العرب في الجاهلية، وسبب تحريمهم ذي القعدة وذي الحجة ومحرم هو أداء شعيرة الحج، فكانوا يحرمون قبله شهراً ليتمكنوا من السير إلى الحج، ويسمونه ذا القعدة؛ لقعودهم عن القتال فيه، ثم يحرمون ذا الحجة، وفيه أداء مناسكهم وأسواقهم، ثم يحرمون بعده شهراً ليعودوا إلى ديارهم. وحرموا شهر رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار، فيأمن قاصد البيت الغارة فيه.(تفسير ابن كثير).
لماذا سمي رجبا؟
وسمي رجب رجباً؛ لأنه كان يرجب أي يعظم، يقال في اللغة (رَجَبَ) فلانا أي خافه، وهابه، وعظمه، قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة:445): (رجب) الراء والجيم والباء أصلٌ يدل على دعم شيء بشيء وتقويته. ومن هذا الباب: رجبت الشيء أي عظّمته. فسمي رجبا لأنهم كانوا يعظّمونه وقد عظمته الشريعة أيضا.
وأما إضافته إلى مضر؛ فلأن مضر كانت لا تغيره بل توقعه في وقته ـ بخلاف باقي العرب الذين كانوا يغيّرون ويبدلون في الشهور بحسب حالة الحرب عندهم، وهو النسيء المذكور في قوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله}[التوبة: 37].
وقيل: إن سبب نسبته إلى مضر أنها كانت تزيد في تعظيمه واحترامه فنسب إليهم لذلك. فلقد كانوا يُحرِّمون فيه القتال، حتى أنهم كانوا يُسمُّون الحرب التي تقع في هذا الشهر «حرب الفجار»!!. وكانوا يتحرَّون الدعاء في اليوم العاشر منه على الظالم، وكان يُستجاب لهم! وقد ذُكر ذلك لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: "إنَّ الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض، وإنَّ الله جعل الساعة موعدهم، والساعةُ أدهى وأمرّ". وكانوا يذبحون ذبيحةً تُسمَّى (العَتِيرة)، وهي شاة يذبحونها لأصنامهم، فكان يُصبُّ الدم على رأسها! وأكثر العلماء على أنَّ الإسلام أبطلها، لحديث الصحيحين: (لا فرْع ولا عَتيرة).
وقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر رجب مُنصّل الأسنّة كما جاء عن أبي رجاء العطاردي قال: "كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة " كوم من تراب" ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا مُنصّل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه فيشهر رجب".(رواه البخاري).
قال البيهقي: كان أهل الجاهلية يعظّمون هذه الأشهر الحرم، وخاصة شهرَ رجب فكانوا لا يقاتلون فيه. وكانوا يسمونه أيضا «رجب الأصم» لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه (تفسير الطبري:4/300).
مكانة عظيمة
وللأشهر الحرم مكانةً عظيمة، ومنها شهر رجب بالطبع، قال - تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام}[المائدة:2]، أي لا تحلوا محرماته التي أمركم الله بتعظيمها ونهاكم عن ارتكابها، فالنهي يشمل فعل القبيح ويشمل اعتقاده.
وقوله سبحانه: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم}[التوبة:36] أي في هذه الأشهر المحرمة.
والضمير في الآية عائد إلى هذه الأربعة الأشهر على ما قرره إمام المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - فينبغي مراعاة حرمة هذه الأشهر لما خصها الله به من المنزلة والحذر من الوقوع في المعاصي والآثام تقديرا لما لها من حرمة، ولأن المعاصي تعظم بسبب شرف الزمان الذي حرّمه الله؛ ولذلك حذرنا الله في الآية السابقة من ظلم النفس فيها مع أنه - أي ظلم النفس ويشمل المعاصي- يحرم في جميع الشهور.
قال قتادة: العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً. وقال ابن عباس: يريد استحلال الحرام والغارة فيهن. وقال محمد بن إسحاق: لا تجعلوا حلالها حراماً، ولا حرامها حلالاً كفعل أهل الشرك، وهو النسيء.
وقال القرطبي - رحمه الله -: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب لأن الله - سبحانه - إذا عظم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس كثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار - تعالى -إلى هذا بقوله - تعالى-: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين}[الأحزاب: 30].
أحاديث ضعيفة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجب حديث. بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها كذب).
وقال ابن حجر رحمه الله: (لم يرد في فضل شهر رجب ولا صيامه ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة.
وقال ابن دحية - رحمه الله-: وفي هذا الشهر أحاديث كثيرة من رواية جماعة من الوضاعين، وكان شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي لا يصوم رجباً وينهى عن ذلك، ويقول: ما صح في فضل رجب ولا في صيامه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء.