في القرآن الكريم سبع آيات افتتحت كل آية منها بجملة شرطية، تصور حال الظالمين والمجرمين والكافرين في صورة تبدأ بشعورهم وقد أزف رحيلهم عن هذه الدنيا، وتمر بحضور الملائكة لقبض أرواحهم، ثم صورتهم وهم يصارعون سكرات الموت، ثم صورة سوقهم للوقوف بين يدي رب الأرباب وحسابهم، ثم أخيراً لا آخراً وقوفهم على النار؛ استعداداً لزجهم بها؛ جزاء بما كسبوا.
واحدة من تلك الآيات تصور حال الكافرين، وقد داخلهم الهلع والفزع؛ لشعورهم بقرب مغادرتهم هذه الحياة الفانية، التي كانوا يصفونها بأنها حياة لهو ولعب وعبث، ثم ها هم وقد اقترب أجلهم، وحانت ساعة الرحيل إلى دار القرار، وهي حالة أشبه ما تكون بحالة من صدر عليه حكم الإعدام، وهو ينتظر وقت التنفيذ، تصور الآية تلك الحال بالقول: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب} (سبأ:51) فالظالمون والكافرون والمجرمون في وضع الآن لا يحسدون عليه؛ إذ لا مفر لهم مما هو ينتظرهم، ولا مهرب مما هو نازل بهم، ولا حام لهم مما هو معدٌّ لهم؛ فجنود الله في الطريق لقبض أرواحهم، والزج بهم بين يدي رب العالمين.
آية أخرى تصور المجرمين والظالمين والكافرين وقد أحاط بهم جند الله، يقبضون أرواحهم، ويسقونهم سوق المجرمين إلى العدالة؛ لينالوا جزاء ما كسبت أيديهم، تقول الآية الكريمة: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} (الأنفال:50) فكأنك أمام صورة حية، يظهر فيها المجرمون والظالمون والكافرون، وهم يساقون بالضرب على وجههم وعلى أدبارهم؛ كحال المجرم المسوق إلى العدالة، وهو يريد أن يتهرب من سائقيه، ويتفلت من العقاب الذي ينتظره.
آية ثالثة تتقدم خطوة إلى الإمام، فتصور لنا حال الظالمين والكافرين والمجرمين وهم يعانون سكرات الموت، والملائكة تحيط بهم، وتستهزئ بحالهم، وتتحداهم أن ينقذوا أنفسهم مما أحاط بهم، وتتوعدهم بالعذاب الذي ينتظرهم، تقول الآية: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم} (الأنعام:93) صورة أقرب ما تكون إلى الواقع، تصور تلك الحال التي يمر بها أعداء الله، الكافرون بآيات الله، والظالمون لأنفسهم ولغيرهم، والمجرمون في حق أنفسهم وحق من حولهم.
ثم ينتقل بنا المشهد القرآني إلى صورة أخرى تصور المجرمين والظالمين والكافرين، وقد أُحضروا أمام أحكم الحاكمين؛ ليسألهم عما اقترفته أيديهم -وهو أعلم بهم- وهي صورة أقرب ما تكون إلى صورة وقوف المجرم أمام قاضي المحكمة، يسأله عن جريمته، ليُصدر في حقه الجزاء الذي يستحقه، تقول الآية: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} (الأنعام:30) الكفرون الآن -وكذلك الظالمون، والمجرمون- بين يدي رب السموات والأرض، ليس ثمة من يدافع عنهم، وليس ثمة من ينصرهم، وليس ثمة من يلتفت إليهم؛ إذ أعوانهم في الدنيا تخلوا عنهم، بل الأعوان في أنفسهم أيضاً مشغولون.
أمام هذه الحال -التي لا مفر منها- تصور لنا آية أخرى حال المجرمين والظالمين والكافرين وهم يعترفون بجريمتهم، بل بجرائمهم؛ إذ لا سبيل للإنكار، ولا سبيل للكذب، ولا سبيل لرشوة القاضي، ولا سبيل للدعم والعون الداخلي والخارجي، إنهم خافضو رؤوسهم، كالولد المذنب وقد وقف أمام أبيه، ينظر ما هو فاعل به، يعترفون بذنوبهم، ويتمنون العودة إلى الدنيا؛ لتصحيح الموقف، والعودة إلى سبل الرشاد، ولكن هيهات هيهات، أنى يكون لهم ذلك، وقد سبق في الكتاب أنهم إليها لا يرجعون، تقول الآية: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون} (السجدة:12).
في أثناء وقوف المجرمين والظالمين والكافرين أمام رب العالمين، وتوجيهه سبحانه السؤال إليهم، يأخذ بعضهم بإلقاء اللوم على بعض، وكل منهم يسعى لتحميل ما اقترفت يداه إلى من كان عواناً له في الدنيا، تصور الآية هذه الحال على النحو التالي: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين} (سبأ:31) هذا دأب المجرمين والظالمين والكافرين على مر الدهور والعصور، يريدون أن يحمِّلوا غيرهم ما اقترفته أيديهم من الجرائم، وما كسبته أيديهم من المظالم.
المشهد الختامي من مشاهد حال الكافرين والمجرمين والظالمين، هو مشهد وقوفهم أمام النار؛ استعداداً لزجهم بها، جزاء بما كسبوا، تقول الآية: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} (الأنعام:27) أمام هذه الموقف المهول، يعاود المجرمون والظالمون والكافرون الكَرَّة بتمني العودة إلى هذه الدنيا، للتصديق بما جاءتهم به الرسل من الإسلام والإيمان، لكن أنى يستجاب لهم، وقد سبق في الكتاب يوم خلق السموات والأرض أنهم إليها لا يرجعون.
ثم ها هنا أمور تتعلق بهذه الآيات، لا ينبغي الغفلة عنها، وهي:
أولاً: أن هذه الآيات الكريمات جاء الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه في حقيقة الأمر خطاب لأمته، قال الزجاج -كما نقل عنه القرطبي-: "والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة لأمته"، بل قال ابن عاشور: هو خطاب "لكل من تتأتى منه الرؤية، فلا يختص به مخاطب"؛ إذ ليس المقصود بهذا الخبر خصوص النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يُحْمَل الخطاب على ظاهره، بل غير النبي أولى به منه؛ لأن الله قادر أن يُطْلِع نبيه على ذلك، كما أراه الجنة في عرض الحائط.
ثانياً: أن (الرؤية) المفروضة في الآيات {ولو ترى إذ...} يجوز أن يراد بها رؤية البصر، إذا كان الحال المحكي من أحوال يوم القيامة، وأن تكون علمية، إذا كانت الحالة المحكية من أحوال النزع، وقبض أرواح الكافرين والظالمين والمجرمين عند الموت.
ثالثاً: أن المقصود من (الشرط) في هذه الآيات تهويل هذا الحال؛ ولذلك حذف جواب (لو) كما هو الشأن في مقام التهويل، حذفاً يراد منه أن تذهب نفس السامع كل مذهب من تصوير فظاعة حالهم، وهول موقفهم بين يدي ربهم، وبتوجيه الخطاب إلى غير معين لإفادة تناهي حالهم في الظهور، حتى لا يختص به مخاطب. والمعنى: لو ترى أيها الرائي، لرأيت أمراً عظيماً، أو لرأيت أمراً عجباً.
رابعاً: قال الطبري عند تفسيره لقوله عز وجل: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} (الأنفال:50) قال: "في الكلام محذوف، استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره، وهو قوله: (ويقولون) {ذوقوا عذاب الحريق}، حذفت (يقولون)، كما حذفت من قوله سبحانه: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا} (السجدة:21) بمعنى: يقولون: ربنا أبصرنا...
خامساً: قال الزمخشري عند تفسيره لقوله تعالى: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب} (سبأ:51) قال: "و(لو) و(إذ) والأفعال التي هي {فزعوا}، {وأخذوا}، {وحيل بينهم}، كلها للمضي، والمراد بها الاستقبال؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما كان ووجد؛ لتحققه". ويزداد عليها فعل، {وقالوا}.
سادساً: قال ابن عاشور عند تفسيره لقوله سبحانه: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} قال: "التعريف في {الظالمون} تعريف الجنس المفيد للاستغراق"، بمعنى أن الآية عامة، تتحدث عن جنس الظالمين، وليس الحديث فيها على ظالمين بأعيانهم.
وقال أيضاً عند تفسيره لقوله تبارك وتعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} قال: "ويجوز أن يكون المراد بـ {الذين كفروا} جميع الكافرين؛ حملاً للموصول {الذين} على معنى العموم، فتكون الآية اعتراضاً مُسْتَطرَداً في خلال القصة بمناسبة وصف ما لقيه المشركون في ذلك اليوم -يوم بدر- الذي عجل لهم فيه عذاب الموت...ثم إن كان المراد بـ {الذين كفروا} مشركي يوم بدر، وكان ذلك قد مضى، يكن مقتضى الظاهر أن يقال: (ولو رأيت إذ توفى الذين كفروا الملائكة) -بصيغة الماضي- فالإتيان بالمضارع في الموضعين مكان الماضي؛ لقصد استحضار تلك الحالة العجيبة، وهي حالة ضرب الوجوه والأدبار؛ ليخيل للسامع أنه يشاهد تلك الحالة. وإن كان المراد المشركين حيثما كانوا، كان التعبير بالمضارع على مقتضى الظاهر".
والمتحصل من كل ما تقدم، أن هذه الآيات المبتدأة بالجملة الشرطية {ولو تر إذ...}، مع أن الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنها سيقت في سياق حدث معين، إلا أنها تفيد العموم، عموم الأعيان، وعموم الأزمان، عموم الظالمين، والمجرمين، والكافرين، وهو الأصل في النص القرآني.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
في ظلال آية