مصعب بن عمير أو مصعب الخير رضي الله عنه، كان قبل إسلامه أحسن فتيان مكة شباباً وعِطراً وجمالاً، وكانت أمه خُنَاس بنت مالك كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، لما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وعَلِم باجتماعه في دار الأرقم بأصحابه، سارع إليه ليسمع منه آياتٍ من القرآن الكريم فكان له مع الإسلام موعداً، وهو ممن هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة المنورة، وكان أول سفير في الإسلام، وأول من صلى الجمعة في المدينة، وقد شهد بدراً وأحداً، وأكرمه الله عز وجل بالشهادة في غزوة أحد وكان حاملاً للواء المسلمين فيها، فكان من الذين اشتروا الآخرة بالدنيا، وترك النعيم الذي كان يتمتع به في الدنيا ليحظى بنعيم الآخرة.
قال ابن الأثير في كتابه "أسد الغابة في معرفة الصحابة": "كان مصعب بن عمير من فضلاء الصحابة وخيارهم ومن السابقين إلى الإسلام، أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، وكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً فبصر به عثمان بن طلحة يصلي، فأعلم أهله وأمه فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوساً إلى أن هاجر إلى أرض الحبشة وعاد منها إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة بعد العقبة الأولى، ليعلم الناس القرآن ويصلي بهم".
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً عليه إهاب كبش قد تنطّق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى هذا الرجل الذي نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حبّ الله ورسوله إلى ما ترون) قال الحافظ العراقي: رواه أبو نُعيم في الحلية بإسناد حسن. وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "كنا قوماً يصيبنا صلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدته، فلما أصابنا البلاء اعتزمنا لذلك، وصبرنا له، وكان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثم لقد رأيته جهد في الإِسلام جهدا شديداً".
في العام الثاني عشر من البعثة النبوية جاءت وفود من قبيلتي الأوس والخزرج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة سُميت ببيعة العقبة الأولى، وأرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه ليعلمهم القرأن الكريم والإسلام، فكان يأتي الأنصار في دورهم ويدعوهم إلى الإسلام، فيسلم الرجل والرجلان حتى فشا الإسلام فيهم، وكادت المدينة المنورة كلها تدين بإسلامها لمصعب رضي الله عنه، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه أن يجمع بهم (يصلي بهم الجمعة) فأذن له، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مع السبعين الذين قدموا عليه في العقبة الثانية فأقام بمكة قليلا ثم عاد إلى المدينة المنورة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليها في السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية.
وفي شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة النبوية وبعد انتهاء القتال في غزوة أحد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ساحة المعركة يتفقّد أحوال الجرحى والشهداء، فرأى الكثير قد فاضت أرواحهم، منهم: مصعب بن عمير رضي الله عنه، قال ابن القيم في كتابه: "صفة الصفوة"، وابن سعد في الطبقات: "عن محمد بن شرحبيل قال: حمل مصعب اللواء يوم أحد فلما جال المسلمون ثبت به مصعب فأقبل ابن قميئة فضرب يده اليمنى فقطعها ومصعب يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}(آل عمران: 144)، وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه فضربها فقطعها، فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فانفذه". وقال المباركفوري: "وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قميئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسري، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسري، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قميئة، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبهه به".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مرَّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له ثم قرأ هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب: 23)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
فارَق مصعب بن عمير رضي الله عنه الدنيا شهيداً، تاركاً المال والجاه والنعيم، وآثر الآخرة وما عند الله تعالى، فعن خباب رضي الله عنه قال: (هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله (ثبت أجرنا الدنيوي والأخروي عنده سبحانه)، فمنا من مضى أو ذهب (مات) لم يأكل من أجره (الدنيوي) شيئًا كان منهم مصعب بن عمير، قُتِل (استشهد) يوم أُحُد فلم يترك إلا نمرة (كساء غليظ فيه خطوط بيض وسود)، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت (ظهرت) رجلاه، وإذا غُطِّيَ بها رجلاه خرج رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر (نبات معروف عندهم)) رواه مسلم. وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أُتِيَ بطعام وكان صائماً فقال: (قُتِل مصعب بن عمير وهو خير مني، كُفِّن في بردة إنْ غُطِّيَ رأسُه بدتْ رجلاه، وإن غُطِّيَ رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقُتِل حمزة وهو خير مني، ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بُسِط ـ أو قال: أُعْطِينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام) رواه البخاري. وهذا من تواضع عبد الرحمن بن عوف.
رضِيَ الله تعالى عن مصعب بن عمير الذي كان نموذجاً من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقدموا ما يملكون من نفسٍ ومالٍ، وغالٍ ونفيس في سبيل الله عز وجل، فكان لهم من الله الرضا والمغفرة والفوز بجنات تجرى من تحتها الأنهار، وفيهم قال الله تعالى: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب:23)، وقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}( آل عمران: 169)، قال الطبري: " وقوله:{الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} يعني: الذين قُتِلوا بأحُد (ومنهم مصعب بن عمير) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، {أَمْوَاتًا} يقول: ولا تحسبنهم، يا محمد أمواتاً، لا يحسُّون شيئاً، ولا يلتذُّون ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي، متنعمون في رزقي، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي، وحبَوْتهم به من جزيل ثوابي وعطائي".
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من بدر إلى الحديبية