الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

والسماء ذات الرجع

والسماء ذات الرجع

والسماء ذات الرجع

من الآيات التي تضمنت إعجاز علميًّا قوله تعالى: {والسماء ذات الرجع} (الطارق:11) هذه الآية هي من آيات (القَسَم) في القرآن الكريم، و(القَسَم) في كتاب الله يأتي من قبيل التنبيه إلى أهمية الأمر الذي جاء به (القَسَم)؛ لأن الله سبحانه غني عن (القَسَم) لعباده.

و(القَسَم) هنا بـ (السماء)، وبصفة خاصة من صفاتها، وهي أنها (ذات رجع)، وقد قال المفسرون المتقدمون: إن (رجع) السماء هو المطر، وإنه سمي (رجعاً)؛ لأن بخار الماء يرتفع أصلاً من الأرض إلى السماء، حيث يتكثف ويعود إلى الأرض مطراً -بإذن الله- في عملية دائمة التكرار والإعادة، ولفظة {الرجع} هنا مستمدة من الفعل رجع بمعنى: عاد وآب؛ ولذا سمي المطر (رجعاً) كما سمي (أوباً)؛ لأن (الرجوع) هو العود إلى ما كان منه البدء.

والسؤال الذي يرد هنا: إذا كان المقصود بـ (رجع السماء) هو المطر فحسب، فلماذا فضل القرآن الكريم لفظة {الرجع} على لفظة المطر؟ ولماذا لم يأت القَسَم القرآني بالتعبير (والسماء ذات المطر) بدلاً من {والسماء ذات الرجع

واضح الأمر أن لفظة {الرجع} في هذه الآية الكريمة لها من الدلالات ما يفوق مجرد نزول المطر -على أهميته القصوى لاستمرارية الحياة على الأرض- ما جعل هذه الصفة من صفات السماء محلاً لِقَسَم الخالق سبحانه، وهو الغني عن القَسَم؛ تعظيماً لشأنها، وتفخيماً لمهامها. فما هو المقصود بـ {الرجع} في هذه الآية الكريمة؟

إن من معاني {الرجع} الارتداد، أي، أن من الصفات البارزة في سمائنا أنها (ذات رجع) أي: ذات ارتداد، بمعنى أن كثيراً مما يرتفع إليها من الأرض تَرُدُّه إلى الأرض ثانية، وأن كثيراً مما يهبط عليها من أجزائها العليا، يرتد ثانية منها إلى المصدر الذي هبط عليها منه، فـ {الرجع} صفة أساس من صفات السماء، أودعها فيها خالق الكون ومبدعه، فلولاها ما استقامت على الأرض حياة، ومن هنا كان القسم القرآني بها تعظيماً لشأنها، وتنبيهاً لنا لأهميتها في حياتنا.

العلوم الكونية ورجع السماء

والظاهر أن المقصود بـ {السماء} في الآية هنا هو السحاب، أو النطاق المحتوي على السحاب، والمعروف علميًّا بنطاق المناخ. وإذا كان المقصود بـ {السماء ذات الرجع} هو الغلاف الغازي للأرض بنطاق من نطاقاته، مثل (نطاق الطقس) أو بكل نُطُقِه، فإن دراسة ذلك الغلاف الغازي قد أكدت أن كثيرًا مما يرتفع من الأرض إليه من مختلف صور المادة والطاقة، من مثل: هباءات الغبار المتناهية الدقة في الصغر، بخار الماء، غازات أول وثاني أكسيد الكربون، أكاسيد النيتروجين، النوشادر، الميثان وغيرها، الموجات الحرارية كالأشعة تحت الحمراء، والراديوية كموجات البث الإذاعي، والصوتية، والضوئية، والمغناطيسية وغيرها، كل ذلك يرتد ثانية إلى الأرض راجعاً إليها.

كذلك، فإن كثيراً مما يسقط على الغلاف الغازي للأرض من مختلف صور المادة والطاقة، يرتد راجعاً عنها بواسطة عدد من نُطُق الحماية المختلفة، التي أعدها سبحانه لحمايتنا، وحماية مختلف صور الحياة الأرضية من حولنا.

وإذا كان المقصود بـ {السماء ذات الرجع} هو كل السماء الدنيا التي زينها سبحانه بالنجوم والكواكب، فإن علوم الفلك قد أكدت لنا أن كل أجرام السماء قد خلقها الله تعالى من الدخان الكوني (دخان السماء) الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم، التي يسميها القرآن الكريم: عملية الفتق، أو (فتق الرتق)، وأن كل أجرام السماء الدنيا تمر في دورة حياة، تنتهي بالعودة إلى دخان السماء عن طريق الانفجار، أو الانتثار، لتتخلق من هذا الدخان السماوي أجرام جديدة، تعيد الكرَّة في دورات مستمرة من تبادل المادة والطاقة بين أجرام السماء ودخانها.

من صور رجع السماء

باعتبار المقصود من {السماء} في الآية الكريمة {والسماء ذات الرجع} أنه الغلاف الغازي للأرض، نجد الصور التالية من رجع السماء:

(1) الرجع الاهتزازي للهواء (الأصوات وصداها)

تحتوي الطبقة الدنيا من الغلاف الغازي للأرض (نطاق التغيرات الجوية) على (75%) من كتلة ذلك الغلاف، ويتكون أساساً من غاز النيتروجين (78%حجمًا)، والأوكسجين (21.95%حجمًا)، وآثار خفيفة من بخار الماء، وثاني أكسيد الكربون، والأوزون، وبعض هباءات الغبار، وآثار أقل تركيزاً من الأيدروجين، الأرجون، الهيليوم، وبعض مركبات الكبريت.

وكل من التركيب الكيميائي والصفات الفيزيائية لهذا النطاق، يعتبر من الضرورات الأساسية للحياة الأرضية، ومنها القدرة على السمع، فلو لم يكن لنطاق {الرجع} هذه الكثافة الغازية المحددة ما أمكن للاهتزازات المحدثة للأصوات وصداها أن تُسمع، فعندما تهتز أحبالنا الصوتية، تُحْدِث اهتزازاتها ضغوطاً في الهواء، تنتشر على هيئة أمواج، تتحرك في الهواء في كل الاتجاهات، فتصطدم بالجوامد، وترتد على هيئة صدى الصوت، أو تتلقاها طبلة الأذن لأفراد آخرين، فتُحْدِث بها من الاهتزازات والارتدادات ما يمكِّنهم من سماعها بوضوح، ولولا التركيب الكيميائي والصفات الفيزيائية المحددة لذلك النطاق ما سمع بعضنا بعضاً، ولاستحالت الحياة؛ لأن الصوت لا ينتقل في الفراغ، لعدم وجود جزيئات الهواء القادرة على نقل الموجات الصوتية.

وعندما تصطدم الموجات الصوتية بأجسام أعلى كثافة من الهواء، فإنها ترتد على هيئة صدى للصوت، الذي له العديد من التطبيقات العملية. و{الرجع} الاهتزازي للهواء على هيئة الأصوات وصداها، هو أول صورة من صور رجع السماء، ولولاه ما سمع بعضنا بعضاً، وما استقامت الحياة على الأرض.

(2) الرجع المائي

يغطي الماء أكثر قليلاً من (71%) من المساحة الكلية للكرة الأرضية، وتبلغ كميته (1.36) مليار كيلو متر مكعب منها (97.2%) في المحيطات والبحار، (2.15%) على هيئة جليد حول القطبين وفي قمم الجبال، (0.65%) في المجاري المائية المختلفة من الأنهار والجداول وغيرها، وفي كل من البحيرات العذبة، وخزانات المياه تحت سطح الأرض).

وهذا الماء اندفع كله أصلاً من داخل الأرض عبر ثورات البراكين، وتكثف في الأجزاء العليا من نطاق التغيرات الجوية، والتي تتميز ببرودتها الشديدة، فعاد إلى الأرض ليجري أنهاراً على سطحها، ويفيض إلى منخفضاتها مكوناً البحار والمحيطات، ثم بدأ هذا الماء في حركة دائبة بين الأرض والطبقات الدنيا من الغلاف الغازي حفظته من التعفن ومن الضياع إلى طبقات الجو العليا، وتعرف هذه الدورة باسم (دورة الماء حول الأرض).

وماء الأرض يتبخر منه سنويًّا (380.000) كيلو متر مكعب، وهذا البخار تدفعه الرياح إلى الطبقة الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وتحمله السحب، حيث يتكثف ويعود إلى الأرض مطراً، أو ثلجاً، أو بَرَداً، وبدرجة أقل على هيئة ندى، أو ضباب.

وحينما ترجع أبخرة الماء من الجو إلى الأرض بعد تكثفها، يجري قسم منها في مختلف أنواع المجاري المائية على اليابسة، وتصب هذه بدورها في البحار والمحيطات، كما يترشح جزء منها خلال طبقات الأرض ذات المسامية النفاذية؛ ليكون مخزون الماء تحت سطح الأرض، وهناك جزء يعاود تبخره إلى الجو مرة أخرى.

هذه الدورة المعجزة للماء حول الأرض هي الصورة الثانية من صور (رجع السماء)، ولولاها لفسد كل ماء الأرض، الذي يحيا ويموت فيه بلايين الكائنات في كل لحظة، ولتعرض كوكبنا لحرارة قاتلة بالنهار، ولبرودة شديدة بالليل.

(3) الرجع الحراري إلى الأرض وعنها إلى الفضاء

يصل إلى الأرض من الشمس في كل لحظة شروق كميات هائلة من طاقة الشمس، ويعمل الغلاف الغازي للأرض كدرع واقية لنا من حرارة الشمس أثناء النهار؛ لأن ذراته وجزيئاته تمتص وتشتت وتعيد إشعاع أطوال موجات محددة من الأشعة الشمسية في كل الاتجاهات بعيداً عن الأرض. كما يعمل النطاق الأسفل منه نطاق {الرجع}كغطاء بالليل يمسك بحرارة الأرض من التشتت ويردها إلى الأرض.

ومن الأشعة الشمسية القادمة إلى الأرض، يمتص ويشتت ويعاد إشعاع حوالي (53%) منها بواسطة الغلاف الغازي للأرض، وتمتص صخور وتربة الأرض حوالي (47%) منها، ولولا هذا {الرجع} الحراري إلى الخارج لأحرقت أشعة الشمس كل صور الحياة على الأرض، ولبخرت الماء، وخلخلت الهواء.

بالمقابل، فإن السحب التي تَرُدُّ عنا ويلات حرارة الشمس في نهار الصيف، هي التي تَرُدُّ إلينا (98%) من أشعة الدفء بمجرد غروب الشمس، فصخور الأرض تدفأ أثناء النهار بحرارة الشمس بامتصاص حوالي (47%) من أشعتها، فتصل درجة حرارتها إلى (15) درجة مئوية في المتوسط، وبمجرد غياب الشمس تبدأ صخور الأرض في إعادة إشعاع حرارتها على هيئة موجات من الأشعة تحت الحمراء، تمتصها جزيئات كل من بخار الماء، وثاني أكسيد الكربون، فتدفئ الغلاف الغازي للأرض، كما تعمل السُّحب على إرجاع غالبية الموجات الطويلة التي ترتفع إليها من الأرض (98%) مرة أخرى إلى سطح الأرض، وبذلك تحفظ الحياة الأرضية من التجمد بعد غياب الشمس.

ولو لم يكن للأرض غلاف غازي لأحرقتها حرارة الشمس بالنهار، ولولا السحب المتكونة في الجزء السفلي من غلاف الأرض الغازي ما رجع إلينا الدفء المنبعث من صخور الأرض بعد تعرضها لحرارة الشمس، ولتشتتت هذه الحرارة إلى فسحة الكون، وتجمدت الأرض وما عليها من صور الحياة في نصف الكرة المظلم بمجرد غياب الشمس. وهذا {الرجع} الحراري بصورتيه إلى الخارج وإلى الداخل مما يحقق صفة {الرجع} لسماء الأرض.

(4) رجع الغازات والأبخرة والغبار المرتفع من سطح الأرض

عندما تثور البراكين تدفع بملايين الأطنان من الغازات والأبخرة والأتربة إلى جو الأرض، الذي سرعان ما يُرْجِع غالبية ذلك إلى الأرض، كذلك يؤدي تكون المنخفضات والمرتفعات الجوية إلى دفع الهواء في حركة أفقية، ينشأ عنها الرياح التي يتحكم في هبوبها -بعد إرادة الله تعالى- عدة عوامل، منها: مقدار الفرق بين الضغط الجوي في منطقتين متجاورتين، ومنها دوران الأرض حول محورها، ومنها تنوع تضاريس الأرض والموقع الجغرافي للمنطقة.

والغالبية العظمى من المنخفضات الجوية تتحرك مع حركة الأرض بسرعات تتراوح بين (20) و(30) كيلو متراً في الساعة، وعندما تمر المنخفضات الجوية فوق اليابسة تحتكّ بها، فتبطؤ حركتها قليلاً، وتُحَمَّل بشيء من الغبار، الذي تأخذه من سطح الأرض، وإذا صادف المنخفض الجوي في طريقه سلاسل جبلية معترضة، فإنه يصطدم بها، ما يعين على إبطاء سرعتها وعلى عود الهواء إلى أعلى، ولما كان ضغط الهواء يتناقص بالارتفاع إلى واحد من ألف من الضغط الجوي العادي -أي عند سطح البحر- إذا وصلنا إلى ارتفاع (48) كيلو متراً فوق ذلك المستوى، وإلى واحد من مائة ألف من الضغط الجوي، إذا وصلنا إلى ارتفاع ألف كيلو متر، فإن قدرة الهواء على الاحتفاظ بالغبار المحمول من سطح الأرض تضعف باستمرار، ما يؤدي إلى رجوعه إلى الأرض، وإعادة توزيعه على سطحها بحكمة بالغة.

(5)الرجع الخارجي للأشعة فوق البنفسجية بواسطة طبقة الأوزون

تقوم طبقة الأوزون في قاعدة نطاق التطبق بامتصاص وتحويل الأشعة فوق البنفسجية القادمة مع أشعة الشمس بواسطة جزيئات الأوزون (O3) وتَرُدُّ نسباً كبيرة منها إلى خارج ذلك النطاق، وبذلك تحمي الحياة على الأرض من أخطار تلك الأشعة المهلكة، التي تحرق كلاًّ من النبات والحيوان والإنسان، وتتسبب في العديد من الأمراض من مثل: سرطانات الجلد، وإصابات العيون، وغيرها، ويمكن أن تؤدي إلى تبخير ماء الأرض بالكامل.

(6) رجع الموجات الراديوية بواسطة النطاق المتأين

في النطاق المتأين بين (100) و(400) كم فوق مستوى سطح البحر، تمتص الفوتونات النشيطة القادمة مع أشعة الشمس من مثل الأشعة السينية، فتؤدي إلى رفع درجة الحرارة وزيادة التأين، ونظراً لانتشار الإليكترونات الطليقة في هذا النطاق، فإنها تعكس الإشارات الراديوية القادمة مع أشعة الشمس إلى خارج نطاق الأرض، كما تعكس موجات الراديو المبثوثة من فوق سطح الأرض، وتَرُدُّها إليها، فتُيَسِّر عمليات البث الإذاعي والاتصالات الراديوية، وكلها تمثل صوراً مختلفة من {الرجع}.

(7) رجع الأشعة الكونية بواسطة كل من أحزمة الإشعاع والنطاق المغناطيسي للأرض

يمطر الغلاف الغازي للأرض بوابل من الأشعة الكونية الأولية، التي تملأ فسحة الكون، فتردها إلى الخارج كلٌّ من أحزمة الإشعاع والنطاق المغناطيسي للأرض، فلا يصل إلى سطح الأرض منها شيء، ولكنها تؤدي إلى تكون أشعة ثانوية، قد يصل بعضها إلى سطح الأرض، فتؤدي إلى عدد من ظواهر التوهج والإضاءة في ظلمة الليل من مثل ظاهرة الفجر القطبي.

والأشعة الكونية بأنواعها المختلفة تتحرك بمحاذاة خطوط المجال المغناطيسي للأرض، والتي تنحني لتصب في قطبي الأرض المغناطيسيين، وذلك لعجزها عن عبور مجال الأرض المغناطيسي، ويؤدي ذلك إلى رد غالبية الأشعة الكونية القادمة إلى خارج نطاق الغلاف الغازي للأرض، وما يمكن أن يفلت منها تَرُدُّه أحزمة الإشعاع.

وهذه الصور المتعددة لرجع السماء لم تُعْرَف إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وعلى ذلك فإن وصف السماء بأنها (ذات رجع) في القرآن الكريم من قبل ألف وأربعمائة من السنين، يجمع كل هذه الصور التي نعرفها اليوم، وربما العديد من الصور التي لم نعرفها بعد في كلمة واحدة، وهي {الرجع}، هذه الكلمة الجامعة، هي شهادة صدق بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي تلقى هذا الوحي الحق، هو خاتم أنبياء الله ورسله صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين، وأنه صلى الله عليه وسلم كان موصولاً بالوحي، ومعلَّماً من قِبَلَ خالق السماوات والأرض.

* مادة المقال مستفادة من مقال للدكتور زغلول النجار على موقع (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) بتصرف.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة