عندما نتساءل في مسألة الاستقلالية الإعلامية فإننا نتساءل عن مفهومها قبل أن نتساءل عن مقصودها: الاستقلالية عمن؟ بالقياس إلى ماذا؟ على أي أساس؟ لأية غاية؟ هل المفروض أن يكون الإعلام مستقلا؟ وإذا كان كذلك، فإلى أي مستوى بالتحديد؟
هذه التساؤلات تشي بأن مسألة الاستقلالية إنما هي مسألة نسبية بامتياز، على الأقل من زاوية أن لكل منبر أو محطة غاية وهدفا، وقبل كل هذا وذاك رسالة، من المؤكد أن الدافع بها يتبنى هذه الجهة أو تلك، جهارة أو بالمضمر. قد تكون السلطة، وقد تكون الجماعة، وقد تكون الرأي العام، وقد تكون عالم المال والأعمال وقد تكون غيرها. كل مستوى من هذه المستويات يدفع بتصوراته وأفكاره ويدافع عنها بهذا الشكل أو ذاك. أين الاستقلالية في كل هذه الحالات؟
قد نسلم بادعاء بعض المنابر الإعلامية غير الحزبية أنها مستقلة وصاحبة قرار ولا سلطان لأحد على خطها التحريري، بما في ذلك السلطة. قد نسلم بذلك تجاوزا بوجه هذه الأخيرة، لكننا لا نستطيع أن نسلم به في المطلق، لاسيما عندما نعلم من أين يأتي دعم هذه المنابر، وكيف تتحصل على الإعلانات، وكيف تجاري هذه الجهة أو تماري تلك، وإن فيما بين السطور.
ولذلك، فإن الاعتقاد بأن التحامل على السلطة، من خلال نقد سلوك أركانها أو انتقاد سياساتها، هو عربون استقلالية، ليس صحيحا، إذ قد لا يخرج كثيرا عن مجرد المزايدة الصرفة، المحيلة على الابتزاز في بعض أوجهها، أو عن السياسة التجارية لهذا المنبر أو ذاك، بغرض الرفع من منسوب مبيعاته والتموقع في الفضاء العام بانتظار هذا الاستحقاق أو ذاك. الاستقلالية المدعاة هنا سرعان ما تتحول بحكم الأمر الواقع إلى أصل تجاري صرف، وتخرج عن كونها أداة بناء مجال إعلامي، المفروض فيه أن يتحول إلى -إذا لم نقل- سلطة رابعة، فعلى الأقل إلى سلطة مضادة بوجه سلوكيات فاعلي الدولة الفاسدة.
من جهة أخرى، وبتتبع عام لأداء بعض المنابر الإعلامية التي تدعي الاستقلالية، فإننا لسنا متأكدين حقا من أن أصحابها قادرين على رفع رهان هذه الاستقلالية، أي الدفع برأي وتأدية الثمن عليه بهذا الوجه أو ذاك. بالعكس، فقد رأينا في العديد من الحالات، كيف تم اللجوء إلى رسائل الاستعطاف لدى رأس الدولة عندما يتعرض منبر ما للتغريم أو صاحبه للسجن، وكيف تم تخفيف حدة النبرة تحت هذا التهديد أو ذاك، وكيف باتت العديد من ذات المنابر تدور في فلك السلطة دونما تحفظ، وكيف أن بعضا منها حرم على نفسه الاقتراب من بعض مكامن السلطة، أو من اللوبيات الدائرة في فلكها وهكذا.
إن الذين يدفعون بمعيار الاستقلالية يدركون جيدا أنهم ليسوا كذلك ولا هم في مستواها، ولا هم بقادرين على تأدية الفاتورة التي تستوجبها. إنهم يتخذون منها أصلا تجاريا عله يرفع من مبيعاتهم... وهم يعرفون ذلك مثلنا وأكثر.
الإعلام والسلطة بالعالم العربي، كما بالعديد من دول العالم، عنصرا معادلة ملؤها التناقض والتنافر والتمنع والممانعة والاحتراب. إذ اكتساب مساحة إضافية لهذا غالبا ما تتم على حساب ذاك. لهذا نجد أن عنصر التجاذب غالبا ما يتم على خلفية حرية التعبير، بين مستوى يملك السلطة الرمزية والقوة الخشنة، وبين مستوى لا يملك إلا بعضا من عناصر القوة الناعمة يعمد إلى تفعيلها بين الفينة والأخرى، وباحتراز شديد.
السلطة بطبيعتها تجنح للتسلط في الغالب، والتسلط معناه جنوح السلطة لأن تدغم في صلبها كل الفضاءات الأخرى، لا سيما المناهضة لها، أو المتطلعة للاستقلال عنها، أو غير القابلة بالدوران في فلكها. لهذا السبب، ترى الدول الديموقراطية تحاول استرضاء الإعلام بهذه الطريقة أو تلك (وضمنها تجنب التصادم معه)، وترى النظم المتسلطة تحاول أن تستقطب الإعلام "المتمرد" أو الجانح للتمرد، بغرض ترويضه أو تقليم أظافره، أو تطويعه ليخضع للمنظومة في شكلها وجوهرها.
إن البلدان العربية لا تعيش جوا ديموقراطيا على الشاكلة الغربية، وإعلامها لا يتمتع بالاستقلالية التي نلحظها بالدول ذاتها...كيف الادعاء بالاستقلالية والحالة هاته، أو التبجح بها أو القول برجحان كفتها، ونحن نعلم أننا أبعد ما نكون عن ذلك بالجملة والتفصيل؟
الإعلام، في البلدان العربية، جزء من جهاز وليس جهازا قائم الذات. إنه جزء من بنية قائمة، ليس مطلوبا منه (من الإعلام أقصد) تقويم اعوجاجها أو إصلاح ذات البين من بين أضلعها، أو الإشارة على أركانها نقدا مباشرا أو مجاهرة نصوحا أو تقييما بعد حين.
إنه مطالب بالاندغام في بنيانها، بالتماهي معها وبمجاراة اختياراتها في الزمن وفي المكان... ومن زاغ عن السكة، فغالبا ما يتم إعمال آليات الاستهداف المباشر في حقه ( بالتضييق الخشن على مجاله عبر المنع والمصادرة والإغلاق)، أو في أحسن الأحوال بالمتابعات القضائية التي إن أنصفته حينا، فهي لا تضمن له الإنصاف إن ارتد أو تمادى أو اقترب كثيرا من جنبات "الملعب المحذور".