يؤشر الاهتمام الكبير الذي توليه وسائل الإعلام العالمية بأحداث نهاية العام الميلادي، والاحتفالات ذاتها بنهايته واستقبال آخر على مركزية الإعلام العالمي، ومدى هيمنه على المزاج العام في الدنيا، وتوجيهه لمناسبات الاهتمام والاحتفاء في كثير من بلدان العالم، حتى لو لم تكن هذه المناسبة تمثل لكثيرين نقطة محورية أو نهائية لمرحلة ما من حياتهم.
يعطي هذا الاهتمام إشارة واضحة لقدرة خمس أو ست إمبراطوريات إعلامية ترسم المزاجات العامة للشعوب المختلفة، المتباينة الثقافات، المختلفة الأجناس، المتعاكسة في العقائد والأيديولوجيات، قدرتها على تذويب الفروق، وصبغ الجميع أو معظم الشعوب بلون موحد تريده تلك الإمبراطوريات.
احتفالات شبه موحدة، فوضى سلوكية، افتراس للأخلاق والقيم، احتفاء بلا مناسبة حقيقية.. كل هذا معلوم حقيقة، لكن ما يقلق أكثر بعد الأثر العقدي، هو تلك القدرة العالية لوسائل الإعلام في العالم على صرف الأنظار باتجاه ما تريد، وإشاحتها الوجوه عما تريد، وفي جانب لا يبدو مزعجاً للبعض، كونه لا يسدد - فيما يبدو لأول وهلة - سهامه إلى قلب العقائد والقيم والأخلاق، وهو جانب الاستعراض البحت لأحداث العام المنصرم.
تتبارى وسائل الإعلام في التذكير بأهم الأحداث التي مرت بالعالم خلال عام مضى، لكن هذا التباري ليس بريئاً في تناوله، فبجهد بسيط، إذا ما قمت باستعراض ذاتي لأهم الأحداث التي مرت بالعالم يمكنك أن تلحظ غياباً متعمداً لأحداث جسام مرت بالعالم، وإبرازاً لأخريات ليس بدرجة عالية من الأهمية، إلا من كونها تعني بما تريد تلك الإمبراطوريات الإعلامية للشعوب المطوّعة أن تنصرف إليه.
وبإطلالة سريعة بوسعك أن تلحظ أن المجازر المرعبة التي نفذتها الأنظمة الإرهابية في كل من موسكو وطهران ودمشق ضد المدنيين العزل في سوريا، واستخدامهم أبشع أنواع الأسلحة المتراوحة ما بين البراميل المتفجرة السورية ذات الأهداف الاعتباطية، والذكية الروسية، مروراً بالأدوات التقليدية لعشرات الميليشيات الدموية التي تدار من طهران، واستصحاباً لأسلحة فتاكة كالكيماوية وغيرها، كل هذا، الذي قتل وجرح وشرد الملايين لا يأخذ مكان عارضة أزياء أو فيلم حقق نجاحات في الاستعراض العالمي الموجه لأحداث العام!
ولن تجد عناء في معرفة سبب خفاء محاكمة أركان أول نظام مصري منتخب في التاريخ، والحكم بإعدام أول رئيس جلبته الصناديق الانتخابية لمصر، ورئيس برلمانها، وعدد من الوزراء والمحافظين والأكاديميين والقضاة، فيما تحظى الطائرة الروسية الساقطة في صحراء سيناء المصرية على اهتمام يغطي كل ما تقدم.
لن تسمع أو تشاهد ما يمكن أن يجذبك إلى شبه جزيرة القرم حيث سرقت بتواطؤ دولي، وصيرت محتلة رغم عن أهلها من قبل روسيا، وستغيب الانتخابات في ميانمار حيث استبعد المسلمون من خوضها رغم ما قيل عن تعدديتها، ولن تجد التفاتاً يذكر لمعاناة الروهينجا أو مسلمي إفريقيا الوسطى الذين تعمل فيهم آلة العنف تقتيلاً وتقطيعاً وتشريداً.
لابد أن تلتفت إلى مسرحية "أكبر تظاهرة ضد الإرهاب" بعد شارلي إيبدو، فالمخرج يريدك أن تنظر بإمعان إليها، وتتذكر جيداً بضعة أفراد قضوا هنا ليشعر كل أوروبي بأن الاتجاه إلى إدانة المسلمين المتدرجة ليست عملاً تعسفياً بل إجراء ضرورياً فرضه "الإرهاب".
ستجد أن اكتشاف المياه في المريخ هي أعظم أهمية وتأثيراً من الانقلاب الحوثي في اليمن، أو التطبيع الغربي مع إيران مع الاتفاق معها، أو الانتخابات التاريخية في تركيا التي وجهت كل ذي بصر لما تتوق إليه شعوب المنطقة وما ترنو إليه.
ستخطئك في الاهتمام مشاهد كان ينبغي لها أن تكون حاضرة عن المسجد الأقصى، بما له من أهمية عالمية، والانتهاكات حد إطلاق النار في حرماته وساحاته، وحرق مصلاه القبلي، لكن لن تغيب عن ناظريك مشاهد تمثيلية لداعش وهي تكسر تماثيل معبد في مدينة تدمر الأثرية.
سيطغى على كل هذا مشهد من فيلم جديد، أو عرض أزياء، أو رقم رياضي جديد، أو إنجاز تقني يحسب لـ"رواد الحضارة الجدد".
ستدقق قليلاً، وتكتشف كثيراً كم هي المشاهد التي تأخذ بالأنظار، وبتلابيب العقول حتى تفكر بعيداً.. بعيداً كثيراً عما ينفعها وينمي وعيها.