لاشك أن التقنية الحديثة أفادت خطبة الجمعة وأضافت إليها الكثير، فالنظام الصوتي الجيد بالمسجد -مثلا- يسر على الخطيب فلا يبذل قصارى جهده في رفع صوته، كما أن له أثرا كبيرا في إضفاء نوعا من الفخامة للخطبة، خاصة لو اقترن بقليل من صدى الصوت الذي يريح المستمع ويجعله متفاعلا مع الخطيب على المنبر، وتلك ميزة وجهتنا إليها السنة النبوية المطهرة، ففي الحديث النبوي الشريف الذي رواه أحمد عن أوس بن أوس -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع وأنصت ولم يلغ، كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة أجر صيامها وقيامها».
فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ودنا من الإمام واستمع وأنصت ولم يلغ) لا شك أن كل ذلك من أجل التفاعل مع الخطيب وتشرب موعظته وتوجيهاته، وهذا أجدى أن ينتفع به المستمع، ويتحقق منه الخير المطلوب من اجتماع الناس في هذا الجمع الأسبوعي المبارك.
أيضا الخطابة من الورقة مما استحدثه الخطباء في هذا العصر أو بالأصح مما شاع في هذا العصر عن ذي قبل.. والحقيقة أن للورقة في هذه الآونة دورا حيويا في إثراء الخطابة خاصة مع تواضع المستوى العلمي لبعض الخطباء مقارنة بجهابذة الماضي الذي كان يسيل البيان منهم بالسليقة، كما أن الورقة تحافظ على البيان النحوي السليم، وتوفر للخطيب مصدرا للمعلومات يغنيه عن حفظ عشرات الأحاديث النبوية والأقوال المأثورة عن السلف والحكماء، هذا في زمان كثرت فيه المشاغل وتشعبت الهموم وتعقدت وتيرة الحياة وصعب على الكثير الحفاظ على الصفاء الذهني والذاكرة المتينة (هذا مع تحفظنا على بعض مثالبها أيضا).
ومن واقع الكثير من التجارب الشخصية للخطباء قبل استخدام الورقة فقد كانوا يعانون أشد المعاناة في استظهار الأقوال النثرية والنصوص الدينية، ويقضي معظمهم قرابة الشهر في حفظ الخطبة الواحدة، ويلقيها بعد ذلك في أكثر من مسجد، ثم يعاود الحفظ والتكرار لخطبة جديدة؛ وهذا بلا ريب لا يثري ثقافة الخطيب لأنه يحصره في مجموعة محدودة من الخطب التي يتقن حفظها، وهذا من شأنه أن يصيبه بالجمود ونكران التجديد؛ لأن استيعاب خطبة واحدة يحتم عليه جهدا شديدا.
أما الورقة فمن شأنها أن تجعل الخطيب ثريا في موضوعاته متنوعا في أطروحاته، كما أنها مع طول الوقت توفر أرشيفا لا بأس به يجمع من صنوف الخطب التي تعتبر زادا له في رسالته الدعوية يلجأ إليه عند الحاجة أو تعثر ظروفه التي تحول بينه وبين تحضير خطبة جديدة.
ومما هو جدير بالذكر أن للخطابة من الورقة مهارات وفنونا إضافة عن مهارة الخطابة التقليدية، وهي تحتاج لنوع من الكياسة في الإلقاء والتوازن بين التفاعل مع الناس بصريا والنظر من الورقة لالتقاط الفقرة المراد عرضها، وإذا لم يحافظ الخطيب على هذا التوازن جاءت خطبته جرداء كأنها درس قراءة بحتة لا روح فيها ولا تأثير.
وهذه المهارة بلا شك تحتاج لطول ممارسة، ومران طويل على الإلقاء، وإصرار من الخطيب على أن لا يشعر المستمع بآليات القراءة المجردة؛ كي لا تخرج الخطبة عن جوها المعتاد، ونمطها المألوف وتحقق التأثير المطلوب.
أما تجربتي الشخصية المديدة مع الهاتف الجوال فلا تخرج كثيرا عن فكرة الخطابة من الورقة، وكل ما فيها تسخير لهذه التقنية الجديدة في تيسير موضوع الخطابة بطريقة أسهل بكثير من الورقة، ومميزات لا تتوفر في طريقة الأوراق.
وأفضل ما يمكن استخدامه لهذا الغرض الهواتف الحديثة التي تعمل باللمس، حيث يتوفر بها برنامج خاص لقراءة الكتب والمقالات يعرف بـ (PDF) يتم ابتداء إعداد الخطبة على ملف كتابة (ورد) عادي بالكمبيوتر، ثم تأتي بعد ذلك عملية التنسيق، وتكون عموما كالتالي:
- حجم الخط: بنط 36 سميك (B)
- نوع الخط: العربي التقليدي أو أي خط مفضل.
- الهوامش: 1.5سم للعلوي والسفلي، أما الأيسر والأيمن فيكون 5.5سم
- يحدد الملف كله (ctrl+A) ثم قائمة ثم تباعد الأسطر ونختار (مفرد).
ويراعي التنسيق الجيد بالألوان، بحيث كل فقرة مستقلة تأخذ لونا مغايرا للفقرة التي بعدها، وهذا من شأنه أن يسهل على الخطيب التواصل مع النص، ولا تهرب النصوص من أمام عينيه، خاصة وأنه على المنبر يكون في حالة انفعال وحماس تقتضي ألا يعكر صفوها البحث عن الجملة أو الفقرة.
ويمكن استخدام لون خاص للآيات القرآنية، ولون آخر للأحاديث النبوية. وفكرة الألوان تلك فكرة رائدة تجعل من السهولة بمكان التواصل مع النص بانسيابية منقطعة النظير.
وبعد الانتهاء من هذا الإخراج يحول ملف الكتابة (الورد) الخاص للخطبة إلى ملف قراءة (PDF) بواسطة برامج مجانية ممكن الحصول عليها بسهولة من الإنترنت.
ينقل الملف بعد ذلك بالبلوتوث إلى الهاتف الجوال، ويحفظ في ملف خاص بخطبة الجمعة. ومن المميزات الإضافية لهذه الفكرة الرائدة:
- وجود أرشيف متنقل ومحمول في هاتف الخطيب يحوي العديد من الخطب والمحاضرات على تنوع موضوعاتها وأنماطها، بحيث لو تفاجأ في بعض المواقف بغياب الخطيب الرسمي واضطر لصعود المنبر إنقاذا للموقف، وجد من موضوعات الخطب ما يعالج الموقف وبرصانة لا تقل عن الخطيب المستعد تمام الاستعداد.
- تنوع مخزون الخطب في جوال الداعية يجعله جاهزا دوما لكل موقف دعوي، فلو اضطرته الظروف لإلقاء كلمة في عرس أو وليمة أو عقيقة لما احتاج إلى الارتجال، ولوجد في جواله موضوعا عن هذه الأمور معد سلفا ومرتبا منمقا بنصوصه التي قد تغيب عن ذهنه من وقع المفاجأة أو عدم الاستعداد مسبقا لها.
- هذا الرصيد الثري يسعف الداعية في المحاضرات والندوات التي ربما تحول مشاغله عن الإعداد الجيد لها فيعتذر عن الحضور ويخسر نقاط في رحلته الدعوية.
- التنوع والثراء لموضوعات الخطب يجعل من السهل والسرعة تغيير موضوع الخطبة حتى ولو كان على المنبر خلال رفع الأذان، فلو صادف الخطيب أن وجد موضوع الخطبة لا يناسب الحضور فله بيسر وسهولة اختيار موضوع آخر، ومن المعلوم أن خطاب الحرفيين غير خطاب المثقفين، وأهل الحضر قد لا يناسبهم حديث لأهل البادية، والشباب غير الكهول والكبار.. وهكذا.
وأقل ما في خطب ومحاضرات الجوال أن تجعل من الداعية كالجندي التام الجهوزية، حاضرا لرسالته لا تغيب عنه أبدا، برصانة وجودة لا تضطره لأن يعتذر بأن الكلمة جاءت بغتة بناء على طلب الحضور أو إرضاء لأحد الأصدقاء أو الأفاضل الذين يتعذر كسر خاطرهم، هذا فضلا عن المعاصرة التي تجعله يستغل هذه التقنيات لخدمة دينه ورسالته.
والله الموفق إلى سواء السبيل.