لا تجد لفظًا تهواه النفوس، وتهش لسماعه، وتستزيد من الحديث فيه - مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه - مثلَ لفظِ الحرية. وما سبب ذلك التعلق العام إلا أن معظم من يسمعون هذا اللفظ، أو ينطقون به يحملونه على محامل يخف محملها في نفوسهم. فالوقح يحسب الوقاحة حرية، فيخف عنده ما ينكره الناس من وقاحته، والجريء الفاتك ينمي صنيعه إليها، فيجد من ذلك مبررًا لجرأته، ومحب الثورة يعد الحرية مسوغًا لدعوته، والمَفْتون في اعتقاده يدافع الناقمين عليه بأنه حر العقيدة إلى غير هؤلاء. فيا لله لهذا المعنى الحسن ماذا لقي من المحن، وماذا عُدِل به عن خير سنن؟
والتحقيق أن الحرية إنما يُعنى بها السلامةُ من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة.
ولقد أصاب الذين اختاروا للتعبير عن هذا المعنى في العربية لفظ الحرية؛ لأن الحرية في كلام العرب ضد الرق، وقد شاع عند العرب أن يلصقوا مَذامَّ الصفات النفسانية بالرق؛ إذ قد عرى العبيد عندهم عن الاهتمام باكتساب الفضائل، وزهدوا في خصال الكمال...
دعوة الإسلام إلى الحرية:
الحرية وصف فطري في البشر؛ فإننا نرى المولود ييفع حرًّا لا يعرف للتقييد شبحًا. وإذ قد كان الإسلام دين الفطرة كما وصفه الله - تعالى -بقوله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)[الروم: 30]، فكل ما هو من أصل الفطرة فهو من شعب الإسلام ما لم يمنعه مانع.
ويزيد إعرابًا عن كون الحرية من أصول الإسلام قوله -تعالى- في وصف محمد -صلى الله عليه وسلم- ووصف أتباعه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف: 157].
فالإصر: هو التكاليف الشاقة، والأغلال: غير الإصر؛ فهي مستعارة للعبودية التي كانوا عليها في الجاهلية وهي عبودية الأصنام وسدنتها، وعبودية الملوك، وعبودية القادة أصحاب المرابيع [جمع مرباع، وهو ربع الغنيمة كان يأخذه سيد القبيلة حين يُغير بها]. ومما يزيد هذا بيانًا قول عمر لعمرو بن العاص في قصة ولده الآتية: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا".
فأما والإنسان مدني بطبع خلقته، محتاج إلى الاتصال ببني نوعه؛ لأنه ضعيف محتاج في قوام أمره إلى التعاون، فالحرية المطلقة تنافي مدنيته؛ فتعين أن الحرية المحمودة التي يدعو إليها الإسلام والحكماء هي حرية مقيدة لا محالة.
مظاهر الحرية:
تتعلق الحرية بالاعتقاد، والقول، والعمل.
فأما حرية الاعتقاد: فقد أسَّس الإسلام حرية العقيدة بإبطال العقائد الضالة المخالفة لما في نفس الأمر؛ فان محور تلك العقائد هو إرغام الناس على أن يعتقدوا مالا قبل له بجولان الفكر فيه، أو ما يموه بتخيلات. وتكليف اعتقاد مالا يفهم ينافي الحرية.
فبَيَّن الإسلامُ الاعتقادَ الحقَّ، ونصبَ الأدلةَ عليه وعلى تفريعه، ودعا الناس إلى الاستنتاج من تلك الأدلة، قال -تعالى-: {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[يونس: 101].
وقد اختلف الصحابة، وحدث الخلاف في عهدهم ومن بعدهم في مسائل كثيرة كمسألة الإمامة، ومسألة القدر، ومسألة التكفير بالذنب، فلم تكن طائفة ترغم غيرها إلا إذا خرج المخالف عن حد المناظرة إلى المغالبة والإرهاق.
لم يسمح الإسلام بتجاوز حرية الاعتقاد حد المحافظة على دائرة الإيمان والإسلام المفسَّرَين في حديث جبريل الشهير؛ لأن ما تجاوز من حرية الاعتقاد يفضي إلى انحلال الجامعة الإسلامية فلا يكون محمودًا. فالذي يعتقد عقيدة الإسلام ثم يخرج عنه فهو المرتد؛ فارتداده إما أن يكون مع إظهار الحرابة للإسلام، وهذا النوع قد حدث زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- من نفر من عُكل وعُرينة فحكم فيهم رسول الله بحكم المحارب.
وأما بدون حرابة فقد ارتد نفر آخرون ثم تابوا فقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توبتهم.
ثم ارتدت قبائل من العرب بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإعلان الكفر، أو بجحد وجوب الزكاة، وقد أجمع الصحابة على وجوب قتالهم؛ فكان إجماعهم أصلًا في قتل المرتد، مع الاعتضاد له بما رواه معاذ بن جبل وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: [من بدل دينه فاقتلوه] يعني الإسلام.
وليس هذا الحكم بقادح في أصل حرية الاعتقاد؛ لأن الداخل في الإسلام قد كان على حريته في اعتقاده قبل دخوله فيه، فلما دخل في الإسلام صار غير حرٍّ في خروجه منه؛ لقيام معارض الحرية؛ لأن الارتداد يؤذن بسوء طوية المرتد من قبل؛ فإنه لا يتصور أن يجد بعد إيمانه دينًا آخر أنفذ إلى القلب من الإيمان، فتعين أن يكون دخوله في الإيمان لقصد التجسس، أو لقصد التشويه بالدين في نظر من لم يؤمنوا به؛ ليوهمهم أنه دين لا يستقر متبعه عليه بعد أن يعرفه.
وقد يكون الارتداد لمجرد الاستخفاف والسخرية بالإسلام.
وحرمة الله توجب الذب عن دينه في مثل هذا، على أن عدم المؤاخذة به يفضي إلى انحلال الجامعة، كما وقع في ردة العرب لو لم يؤخذوا بالصرامة.
أما حرية الاعتقاد نحو غير الداخلين في الإسلام فلم يحمل الإسلام أهل الملل على تبديل أديانهم، بل اقتنع منهم بالدخول تحت سلطانه، وبدعائهم على الدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.
ومعلوم أن الدخول تحت سلطان الإسلام ليس متعلقًا بالاعتقاد ولا بالعمل، ولكنه راجع إلى حفظ أمن دولة الإسلام، إذ الإسلام دينٌ قرينُ دولة؛ فكان من موجباتِ حفظِ بقائه تأمينُه من غوائل الناقمين على ظهوره.
وأما حرية القول: فهي أن يجهر المفكر برأيه، ويصرح بما يراه صوابًا مما يأنس من نفسه أنه يحسن الإصابة فيه، قال الله -تعالى-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[الأنعام: 152]. ولا شك أن قول العدل قد تكرهه النفوس التي يقمعها الحق؛ ولذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر شعب الإيمان، قال الله -تعالى-: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104]. وفي الحديث الصحيح: [من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان]. فالتغيير باليد خاص بأولي الأمر، وجعل التغيير بالقلب أضعف الإيمان فهو حظ ضعيف، فتعيَّن أن حظ عامة المؤمنين هو تغيير المنكر باللسان.
ومن حرية القول بذل النصيحة قال الله -تعالى-: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}[العصر: 3]. وفي الحديث الصحيح: [الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم].
ومن حرية القول حق المراجعة من الضعيف للقوي كمراجعة الابن أباه والمرأة زوجها، وفي حديث عمر بن الخطاب: "... صخبت عليَّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت عليها أن تراجعني قالت: ولِمَ تُنكر عليَّ أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه، وقد أخبر عمر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقره.
وقد راجع الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أشياء من غير التشريع.
ومن حرية القول حرية العلم والتعليم، ومظهرها في الإسلام في حالين:
الحال الأول: الأمر ببث العلم بقدر الاستطاعة، ووراء هذا مرتبة أخرى في العلم والتعليم وهي مرتبة الاستنباط في العلم، فقد دعا الإسلام إليها، وأوجبها على من بلغ رتبة المقدرة عليها في الأحكام الشرعية، وهي مرتبة الاجتهاد بمراتبه، وفي الحديث: [من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد].
وأَيَّةُ حريةٍ للعلم أوسع من هذه؛ إذ جعل الأجر على الخطأ؟
الحال الثاني: تخويل أهل العلم نشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها مع اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق لرأيه ومذهبه، وحرصهم على دوام ذلك تطلبًا للحق؛ لأن الحق مشاع.
ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك بن أنس: إني عزمت أن أكتب كتبك هذه -يعني الموطأ باعتبار أبوابه- نسخًا ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها. فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، وإن ردهم عن ذلك شديد فدع الناس وما هم عليه.
لم يقتصر الإسلام في بذل حرية العلم على المسلمين، بل منح الحرية لأهل الملل الداخلين في ذمته وسلطانه، وقد كان اليهود في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدرسون التوراة في المدارس بالمدينة.
وأما حرية العمل فهي تتعلق بعمل المرء في خُوَيِّصته، وبعمله المرتبط بعمل غيره؛ فحرية العمل في الخويصة مثل تناول المباح والاحتراف بما شاء، ولا يجبر على أن يعمل لغيره إلا إذا تعين عليه عمل من المصالح العامة، أو ما فيه حفظ حياة الغير مثل الدفاع عن الحوزة، وحراسة الثغور، وإنقاذ الغريق، وخدمة من تتعين عليه خدمته، وإعطاء الزكاة، ونفقة القرابة. وكل ذلك يرجع إلى القسم الثاني في الحقيقة.
وكذلك التصرف في المال عدا ما هو محظور شرعًا، إلا إذا طرأ عليه اختلال التصرف من عَتَهٍ أو سفه، وذلك قيد في الحرية؛ لأنها حرية غير ناشئة عن إرادة صحيحة؛ فألغيت لأجل مصلحته ومصلحة عائلته.
وحكم النساء في حرية التصرف مثل الرجال بحسب ما تسمح به حالتهن من انتفاء المفاسد؛ فلهن التصرف في أموالهن إذا كن رشيدات، ولهن إشهاد الشهود في غيبة أزواجهن، وكل ذلك لا عهد للعرب ولا لأهل الأديان الأخرى بمثله. ولهن الخروج لقضاء حوائجهن بالمعروف، ولهن حضور الجمعة والجماعة والعيدين.
وأما حرية العمل المرتبط بعمل الغير فأصله أنه لا يضر بأحد؛ لينتفع غيره، ولكنه لا يعمل عملًا فيه اعتداء على حق الغير كاحترام الكليات التشريعية، وذلك بالتحقيق من قبيل رعي الحريات المختلفة؛ لأن مرجع أحكام المعاملات إلى حفظ مجموع الحريات. وكذلك قد تراعى أعمال تجب على المرء لغيره؛ لإقامة المصالح كما تقدم، أو لبثِّ الخير بين الأمة كالإرفاق والمواساة.
سد ذرائع انخرام الحرية:
جرى الإسلام على عادته في التشريع، وهي أن يشرع الوسائل، ويؤسس القواعد المفضية إلى مقاصده، ثم يحيطها بسد الذرائع التي قد تتسلل من منافذها مفسدات المقاصد، فتعود على أصولها بالإبطال، وتلك هي المُلَقَّبة في أصول الفقه بسد الذريعة.
وهذه الذرائع إنما تتعلق بالقول والعمل؛ فأوجب الإسلام على المسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله والإخلاص فيه، وترك الرياء، وسمي الرياء بالشرك الأصغر؛ وذلك ليجتنب الناس حب المحمدة الباطلة؛ فإن حب المحمدة قائد إلى الاستعباد الاختياري، ومانع للحرية؛ لأن الافتتان بحب المحمدة يُحَتِّم على صاحبه الخوف من الانتقاد، وغضب الجمهور من الذين لا يفقهون مصلحة من غيرها، ولا يميزون بين الحق والباطل، فإذا حَمِدوا ومجَّدوا أحدًا حسبوا فعلهم مزية أنالوها إياه؛ فأصبحوا يمنُّون عليه، ويترقبون منه أن يطيعهم في قضاء ما يشتهون مما يظنونه مصلحة.
وسدَّ ذرائعَ قتل الحرية بالقوة المالية؛ إذ قد يعرض الاستعباد من الحاجة إلى المال، وفي الحديث: [تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض].
فلذا أبطل الإسلام الربا؛ لأنه طريق واسع لاستبعاد المضطرين، وأبطل عقود الإكراه، وأبطل معظم الشروط التي تشترط على العامل في القراض، والإجارة، والمغارسة، والمساقاة، والمزارعة، وقد أمكن أن تُستخرج قاعدةٌ شرعية لهذه المسائل الممنوعة، وهي منع أن يفترص الغني احتياج الفقير إليه، فَيُعْنِتَه لأجل ذلك.
وذرائع فساد حرية القول تكون فيما تقدم، وتكون في حرية العلم بأن نحمل العلماء على تحريف الحقائق؛ لأجل المحمدة الكاذبة، أو لأجل الحصول على مال قليل. وقد نعى الله ذلك على علماء بني إسرائيل، فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}[البقرة: 79]. وقال -تعالى-: {فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}[المائدة: 44]. وكان ذلك كله في إرضائهم عامتهم، وحملهم الشريعة على ما يوافق هوى العامة، كما أوضحته الآثار وأئمة التفسير.
وتكون -أيضًا- في حرية القضاء؛ فلذلك حرَّم الإسلام الرشوة، وأوجب إجراء أرزاق الحكام وكفايتهم من بيت مال المسلمين بحسب الزمان والمكان.
تحصيل:
إذا تبينت ما تقدم من البيان في أنحاء الحرية تَبَيُّنَ الحكيمِ البصير علمت أن الإسلام بذل للأمة من الحرية أوسع ما يمكن بذله في الشريعة جامعةً بين أنواع المصالح بحيث قد بلغ بها حدًّا لو اجتازته لجر اجتيازها إياه إلى اختلال نظام المدنية بين المسلمين، أو بينهم وبين الأمم المرتبطة بهم اختلالًا قويًّا أو قليلًا، وذلك الاختلال قد يفضي إلى نقض أصولها، وامتشاق السيوف؛ لتمزيق إهابها.