أمر الله سبحانه بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة ومرض، وحضر وسفر، وقدرة وعجز، وخوف وأمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال، قال سبحانه: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} (البقرة:238) فالأمر بالمحافظة على الصلاة جاء مطلقاً، ثم أردف سبحانه ببيان كيفية الصلاة حال الخوف والشدة، فقال عز وجل: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} (البقرة:239)، وفي "صحيح البخاري" من رواية ابن عمر رضي الله عنهما قوله: (فإن كان خوف أكثر من ذلك، صلوا قياماً وركباناً، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها).
وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف مراراً متعددة، وبصفات مختلفة، بيد أن الآية هنا هي وجهتنا ومقصدنا، وفيها من الأحكام ما نجمله في المسائل التالية:
المسألة الأولى: قوله سبحانه: {فرجالا} جمع راجل، من قولنا: راجل ورجال، كتاجر وتجار، وصاحب وصحاب، وقائم وقيام، فالمراد هنا، الماشي على رجليه وقدميه. وقوله تعالى: {وركبانا} جمع راكب، والمراد: الركوب على دابة أو نحوها من وسائل النقل، مما يستعان به في قطع المسافات، وقضاء الحاجات، ودفع الملمات.
المسألة الثانية: (الخوف) في الآية هنا خوف العدو؛ وبذلك سميت صلاة الخوف، والعرب تسمي الحرب بأسماء الخوف، فيقولون: الروع، ويقولون: الفزع، ولا يُعرف إطلاق الخوف على الحرب قبل القرآن، قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} (البقرة:155)، قال ابن عاشور: "وإيثار كلمة (الخوف) في هذه الآية؛ لتشمل خوف العدو، وخوف السباع، وقطاع الطريق، وغيرها من المخاوف".
المسألة الثالثة: الخوف يُسقِط ما هو من شروط الصلاة، كاستقبال القبلة، والقيام، والركوع والسجود...؛ وذلك إذا اشتد الخوف، وهجم العدو، ولم يكن للخائف ما يحتمي به، أو يدفع به عن نفسه. وأكثر الفقهاء على أن من صلى صلاة الخوف من عدو أو غيره، فلا إعادة عليه، إذا صار إلى حالة الأمن. قال الشافعي: لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط، دل ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها. وقال أبو حنيفة: يجب إعادة الصلاة إذا صُلِّيت حال القتال؛ لأن القتال في الصلاة مفسد عنده؛ لما يرافق القتال من الأعمال والحركات، وظاهر الآية أقوى دليل عليه. وفرق مالك بين خوف العدو المقاتل، وبين خوف السبع، ونحوه من جمل صائل، أو سيل جارف، أو ما الأغلب من شأنه الهلاك، فإنه استحب من غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن.
المسألة الرابعة: إذا التحم القتال، واشتد النزال، ولم يمكن ترك القتال لأحد، فمذهب الشافعي أنهم يصلون ركباناً حال ركوبهم، ومشاة على أقدامهم حال ترجلهم إلى القبلة وإلى غير القبلة، يومئون بالركوع والسجود، ويجعلون السجود أخفض من الركوع، ويحترزون عن الصيحات؛ لأنه لا ضرورة إليها. وقال أبو حنيفة: لا يصلي الماشي، بل يؤخر. واحتج الشافعي بهذه الآية من وجهين:
الأول: قال ابن عمر رضي الله عنهما: {فرجالاً أو ركباناً} يعني مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي، ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال، فصار قوله تعالى: {فرجالا أو ركبانا} يدل على الترخص في ترك التوجه، ويدل أيضاً على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء؛ لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود.
المسألة الخامسة: أكثر أهل العلم على أن طالب العدو يصلي صلاة آمن؛ لأن شرط الخوف منتف عنه، وفي رواية عن الإمام أحمد أنه يصلي على حسب حاله، بمعنى أن طالب العدو له أن يصلي صلاة الخوف، إذا كان يخاف فوات العدو، أو كان لا يأمن غدره، فهو كالمطلوب سواء.
المسألة السادسة: تجوز صلاة الخوف بالصورة الواردة في هذه الآية حال الدفع عن النفس، أو الدفع عن الغير، وحال الدفاع عن المال، والتعدي على الممتلكات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قُتل دون ماله فهو شهيد) متفق عليه، فدل هذا على أن الدفع عن المال، كالدفع عن النفس. وكذلك حال الخوف من الحرق، والغرق، والسبع، وكذا المطالَبُ بالدين، إذا كان معسراً خائفاً من الحبس، عاجزاً عن بينة الإعسار، فلهؤلاء أن يصلوا هذه الصلاة؛ لأن قوله تعالى: {فإن خفتم} مطلق، يتناول كل حالات الخوف. وقد قال حافظ المغرب ابن عبد البر: "الحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلاً أو راكباً مستقبل القبلة، أو غير مستقبلها، هي حال شدة الخوف".
المسألة السابعة: اختلف العلماء فيمن بدأ صلاته حال الشدة والخوف، ثم أمن وهو في صلاته؛ فقال مالك: إن صلى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبنى على ما صلى، وكذلك إن صلى راكباً وهو خائف ثم أمن نزل وبنى، وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمناً، ثم خاف استقبل ولم يبنِ، فإن صلى خائفاً ثم أمن بنى على ما صلى. وقال الشافعي: يبني النازل، ولا يبني الراكب.
المسألة الثامنة: في الآية إشارة إلى أن صلاة الخوف لا يُشترط فيها الخشوع؛ لأنها تكون مع الاشتغال بالقتال، ولا يُشترط فيها القيام.
المسألة التاسعة: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (فرض الله على لسان نبيكم الصلاة في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة) رواه مسلم، وجمهور أهل العلم على أن الواجب في الحضر أربع، وفي السفر ركعتان، سواء كان في الخوف، أو لم يكن، وأن قول ابن عباس متروك.
المسألة العاشرة: قوله عز وجل بعد بيان رخصة الصلاة حال الخوف والشدة: {فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} للمفسرين في المراد من هذا الختام ثلاثة أقوال:
الأول: {فاذكروا الله} بمعنى: فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} (البقرة:238) وكما بينه بشروطه وأركانه؛ لأن سبب الرخصة إذا زال، عاد الوجوب فيه كما كان من قبل، {والصلاة} قد تسمى (ذكراً)؛ لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} (الجمعة:9) والمراد بـ (الذكر) هنا صلاة الجمعة بالاتفاق.
الثاني: {فاذكروا الله} أي: فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن.
الثالث: أنه دخل تحت قوله: {فاذكروا الله} الصلاة والشكر جميعاً؛ لأن الأمن بسبب الشكر محدد، يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها.
المسألة الحادية عشرة: مجمل القول في الآية أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة:
أحدها: فعل القلب، وهو النية، والنية لا تسقط بحال؛ لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك.
الثاني: فعل اللسان وهي القراءة، وهي لا تسقط عند الخوف، ولا يجوز للمصلي حال الخوف أن يتكلم بكلام أجنبي، أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها.
الثالث: أعمال الجوارح وهي: القيام، والقعود، واستقبال القبلة، فهذه تسقط، أما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما، فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع؛ لأن هذا القدر ممكن، وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف، فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب، إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء، وامتنع عليه التوضؤ به، هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه، والأصح أنه يجوز...وبالجملة فالمعتَمَد في هذا الباب قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.
المسألة الثانية عشرة: قال العلماء: الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء، فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف، فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف، فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض، أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال...والمقصود من هذا أن تُفْعَل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن سائر العبادات، كلها تسقط بالأعذار، ويترخص فيها بالرخص. قال ابن العربي: "قال علماؤنا: إن تارك الصلاة يُقتل؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم الإسلام، لا تجوز النيابة عنها ببدن، ولا مال، فيُقتل تاركها"، والمراد تاركها عمداً أو جحوداً.
بقي أن يقال: لا ينبغي للقارئ أن يذهب به الظن إلى أن ما تضمنته هذه الآية من أحكام إنما هو حالة نظرية فرضية، أكثر منه واقع عملي واقعي، نقول: لا ينبغي أن يقال ذلك؛ لأن واقع المسلمين اليوم يدل على خلاف ذلك، فهم يعيشون اليوم في العديد من أقطار الإسلام حالات حروب طاحنة، وحالات فتن كالليل المظلم. والله المستعان وعليه التكلان.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
آيات الأحكام