اللاعبون الكبار على رقعة السياسة اليوم يدركون أنه لا يمكن ضمان مصالحهم الاستراتيجية ونفوذهم الدولي إلا بتدجين كل الخطابات الدينية الحيوية الكبرى، وحقنها بفيروس الخنوع للغالب، وإماتة لياقة الممانعة فيها، لتنسجم في النهاية مع متطلبات الهيمنة الغربية، ولذلك تنفق الإمبرياليات الغربية المعاصرة بسخاء لا محدود على مراكز البحوث والدراسات وتقارير الرصد الدقيق والمستمر لكل بؤر التوتر بشكل عام، والحراك الديني الإسلامي بشكل خاص.
ومن أطرف الدراسات التي تطرحها مراكز الاستشراف الأمريكية، تلك الأوراق التي تستعرض الخطابات الدينية الإسلامية وتوازن بينها لتحديد أنسب تلك الخطابات في التناغم مع الهيمنة الغربية وعدم التحرش بها أو التشويش عليها.
أما أبرز وسائل السياسة الإمبريالية الغربية لتحقيق هذا الغرض فهو ـ كما يعرف الجميع ـ : الضغط المباشر على النظم السياسية العربية لتمكين الأيديولوجيات المنسجمة أو المتحاشية لإرباك استقرار المصالح الغربية.
ولذلك ففي وسائل إعلام الدول المستضعفة تحتل الليبرالية ـ وهي أيديولوجية الغرب، المساحة الواسعة فيها، وتمنح مقاعد الذروة لرموز الخطاب الدعوي المدجن الذين يدفعون باتجاه "تفتير" مفاهيم العزة العقدية والاستعلاء الديني على الفكر الغربي، وإرضاع المشاهد الغر مشاعر الانكسار والهزيمة أمام الغرب الغالب، الذي يصفونه بأنه الهائل المتفوق المبدع الحضاري المتقدم في جميع مجالات الحياة، ونحوها من الأوصاف التهويلية التي تستبعد من الصورة الانحطاط الغربي في أعظم المطالب كالجهل بالله، وهو أعظم مطلوب، والفواحش، والجريمة، والمادية البائسة، والحياة البهيمية الراتعة التي وصفها كتاب الله بقوله {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم}(محمد:12).
وهذا الأسلوب الذي تسلكه الولايات المتحدة اليوم في الرهان على الخطابات الدينية "الملبرلة"، كما ترصدها الأطروحة الشهيرة للسياسي الأمريكي "ليونارد بايندر" في كتابه الصادر عام (1988م) بعنوان "الليبرالية الإسلامية"، ليس سلوكا غربيا مفاجئا ولا مبتكرا، بل لقد كانت الدول الاستعمارية الأوروبية في وقت مبكر توظف هذا الأسلوب في لبرلة الأحكام الشرعية، كما كان يحكي ذلك المؤرخ النصراني "ألبرت حوراني" بقوله: (كان ممثلو المستوطنين الأوربيين يصرون على ضرورة تثقيف أهالي شمالي أفريقيا ثقافة غربية قائمة على "التفسير الليبرالي للقرآن" مستندين في ذلك إلى المبدأ القائل بأن على أبناء البلاد أن يتطوروا ضمن نطاق مدنيتهم الخاصة!).
وهؤلاء الرموز الذين انخرطوا في سلسلة تدجين الخطاب الدعوي ليتكيف مع الثقافة الغربية الغالبة، مدعومين بالأذرع الإعلامية الليبرالية، صاروا يضخون تأويلات للأحكام الشرعية المتعارضة مع المصالح الغربية والنظرة الغربية والقيم الغربية، وبعضهم فيه سذاجة فيبالغ في طرح تأويلات فجة، فينبذ اجتماعيا! وبعضهم فيه دهاء فطري بحيث يطرح سلسلة التدجين تدريجيا وبلغة هادئة لتتشربها الشريحة المستهدفة بشكل بطيء لكنه أكيد المفعول.
وقد وصف الإمام ابن تيمية هذا الأسلوب لأهل الأهواء بقوله: (وهذا شأن كل من أراد أن يظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق؛ إنما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم، فان شياطين الإنس والجن لا يأتون ابتداءً ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة، فإنهم لا يتمكنون...، والغرض هاهنا التنبيه على أن دعاة الباطل المخالفين لما جاءت به الرسل يتدرجون من الأسهل الأقرب إلى موافقة الناس، إلى أن ينتهوا إلى هدم الدين)[بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية:3/511].
وبعض الشباب المتطلع للثقافة اليوم يتوهم أنه يعيش انفتاحا وتجديدا بين مجموعة من المنغلقين، ولا يعلم أنه ضحية لمؤامرة سياسية كبرى تستهدف بطرق متنوعة ومن خلال نوافذ مختلفة إعادة ترميم الإسلام لينسجم مع مصالح اللاعبين الكبار، باعتبارها ثقافة الغالب. وأطرف ما في الأمر أن بعض هؤلاء الشباب ينعى على علماء ودعاة أهل السنة ضعف الوعي السياسي، ولا يعلم أنه هو الذي يدار بخيوط السياسة من بعيد، ويطبخ في قدر الهيمنة الغربية وهو لا يدري.
نظرية المؤامرة:
كان أحد الأصدقاء يقول لي أليس من السذاجة أن تفكروا أن ثمة مؤامرة؟!
قلت له: إذا كنت تتصور امبراطورية عسكرية بحجم أمريكا ولا تفكر بإدارة مصالحها، وأن تتكيف الخطابات الثقافية الممانعة مع هيمنتها عبر العالم؛ وأنها تتفرج فقط على الثقافات المناوئة فهذه هي السذاجة بعينها.
وأنت ترى القرآن نفسه يتحدث ويصف ويصور المؤامرات كما يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا}[الأنعام:123]. فانظر كيف أن المتآمرين موجودون في كل بقعة من الأرض كما تنص الآية، وأنهم يتآمرون!
بل ووصف الله تعالى تواصل مؤامراتهم وعدم انقطاعها كما في قوله تعالى {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}[سبأ:33]، ووصف الله شدة مؤامرات أهل الضلال بقوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}[إبراهيم: 46].
والمراد أن "التفسير التآمري" حقيقة قرآنية وواقع مشهود لا ينكره إلا مستغفل أو مستفيد، وليس الخطأ في الوعي بهذه المؤامرات التي تحاك الليل والنهار حتى تكاد تزول منها الجبال، وإنما الخطأ هو التهور في المغالاة في هذا الأمر حتى يجعل ما ليس فيه قرائن مؤامراتيه مؤامرة، فهذا هو الخطأ، ولكن هذا الخطأ لا يعالج بإلغاء المفهوم القرآني والواقعي!
لنعد إلى موضوعنا.. تأمل في كل الملفات الشرعية الملتهبة اليوم تجدها في المسائل محل التعارض بين الوحي والغرب: الولاء والبراء، الجهاد، تحكيم الشريعة، قتل المرتد، الحجاب، الاختلاط، السفر بلا محرم، القوامة، الرقية الشرعية، المعازف، الخ الخ..
هل إثارة الغبار في وجه هذه المسائل دون غيرها حدث هكذا اعتباطاً؟!
لماذا لا نجد ولا مثقفا واحدا يطرح إشكالية التعارض بين نصوص التراث والثقافة الإفريقية؟؟
لماذا لا نصادف ولا مشروعا فكريا واحدا منزعجا من التعارض بين نصوص التراث والثقافة الشرق آسيوية؟؟
لماذا كل ندواتهم الفكرية ليس فيها ندوة واحدة عن أزمة التعارض بين نصوص التراث الإسلامي والتقاليد الهنـدية؟؟
هل هو مجرد ظاهرة عشوائية بالصدفة فقط أن تكون "كل" كتبهم ومقالاتهم وفعالياتهم وندواتهم الفكرية تتذمر وتنوح فقط فوق خطوط التماس بين نصوص الوحي وثقافة الغرب الغالب؟!!!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب (سلطة الثقافة الغالبة:19ـ22)