نقصد بهذه المزالق - ونعوذ بالله منها - ما يزِلُّ فيه بعض الدعاة أحيانًا من متشابه القول، وفتنة الحديث، كدقائق الصفات، وأسرار القدر، وغرائب الأحكام، وألغاز التصوف، ومعميات الفلسفة، ومسائل الخلاف والجدل، إلى غير ذلك مما إثمه أكبر من نفعه، وشره أكثر من خيره.
وكل هذا وما يتصل به مما يجب على الداعي إلى الله أن يحذره ويتجنب الخوض فيه، وبخاصة إذا كان يتحدث إلى العامة وأشباه العامة، روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".. وروى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: "حدِّثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟!".
ولا ريب أن الواعظ الكيس والمرشد الحكيم من ينزل الناس منازلهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، ويتوخى لهم أنفع الموضوعات وأمسها بهم، وأقوم الأساليب وأهداها لهم، ومن يغتنم الفرص، ويقدر المناسبات، ويحسن الاختيار، ويفاجئ الطوارئ ببداهة الحكمة، وبلاغة الموعظة، وحسن التأتي، وصدق المدخل والمخرج.
الرخصة في حالتين فقط:
ولست أرى للواعظ أن يترخص في شيء من هذه المزالق فيدخله إلا في إحدى الحالتين:
1- أن يسأله سائل لا يستطيع أن يصرفه، ويرى من الحكمة والحزامة وكبت العناد والثرثرة أن يجيبه بأسلوب حكيم، وهدي قويم، في حدود مداركه ودائرة فهمه، وقد تصل به لباقته وسرعة خاطره وذكاء لبه، إلى جواب يبهت السائل ويحيره ويفحمه، فلا يستطيع له ردًّا.. سأل شيعي إمام الواعظين أبا الفرج بن الجوزي - رحمه الله -: أي الرجلين أفضل: أبو بكر أم علي؟ فأجاب على البداهة: من كانت ابنته تحته.
وقال نصراني لأحد العلماء: لِمَ أبحتم للمسلم أن يتزوج كتابية، ولم تبيحوا للمسلمة أن تتزوج كتابيًّا؟ فقال من فوره: لأن المسلم مؤمن بموسى وعيسى؛ فلا تخاف الكتابية على دينها منه، وأما الكتابي، فإنه كافر بمحمد؛ فلا يبعد أن تخاف المسلمة على دينها منه (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)[البقرة:258].
2- أو أن يشهد قومًا خاضوا هذه المزالق، أو حكَّموه فيما شجر بينهم، ولم يجد بُدًّا من الحكومة والدفع بالتي هي أحسن، وحينئذٍ يسلك مسلك العدالة والإنصاف، غير منحرف لهوى، ولا متحيِّز إلى فئة، ولا محكِّم إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكفى الحكومة بهما عدلاً وهداية ورشادًا.
خطر الوعظ ومسؤولية الواعظ
ومن هنا ندرك خطر الوعظ ومسؤولية الواعظ، وشدة حاجته إلى أسلحة من مختلف العلوم حادة، وإلى عدد من أنواع الفنون متينة، ثم إلى ضروب من الثقافات عامة وخاصة، من بعد تأييد من الله تعالى وحسن معونته.
ومن هنا يتبين خطأ من يظن أن الوعظ أمر هين، وأن الواعظ قاص، تجارته نوادر القصص وغرائب الحكايات.
ألا إن الوعظ علم وعمل، وجهاد وجلاد، لا يصلح له إلا ورثة النبيين، وشيعة الحكماء الربانيين (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)[البقرة:49].