بعد عام واحد من غزوة بدر، التي انتصر المسلمون فيها على المشركين انتصاراً عظيماً، وفي الخامس عشر من شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الموافق 30 مارس 625 م وقعت غزوة أحد، التي أصاب المسلمين فيها ما أصابهم، من شهداء وجرحى، ومرارة وألم، وبعد انتهاء القتال في هذه الغزوة نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشهداء وقال: (أَنا شَهيد علَى هؤلاء، لفُّوهم في دمائهم، فإنَّهُ ليس جريح يُجرَحُ في اللَّه إلَّا جاء وجُرحُهُ يوم القيامة يدمَى لونه لونُ الدَّم، وريحُهُ ريحُ المسك) رواه البخاري.
وقد قام المشركون في هذه الغزوة بالتمثيل (التشويه) في قتلى المسلمين، فبقروا بطون كثير من القتلى، وجدعوا أنوفهم، وقطعوا آذانهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذلك بعد نهاية المعركة، توجه إلى الله عز وجل بالدعاء بعد أن صلى الظهر بهم، وقال لهم: (استووا حتى أثني على ربي عز وجل).
روى البخاري في الأدب المفرد، وأحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير ـ وصححه الألباني ـ عن عبيد بن رفاعة بن رافع، عن أبيه قال: (لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفًا فقال: اللهم لك الحمد كلُّه، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطى لما منعت، ولا مانع لما أعطيت ولا مُقرِّب لما بعدت، ولا مُبْعِد لما قرَّبت، اللهم ابسط علينا من فضلك ورحمتك وبركتك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينهُ في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسُلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق).
وفي هذا الموقف النبوي بعد غزوة أحد ـ والذي ورد فيه هذا الدعاء الجامع ـ تربية للصحابة رضي الله عنه ونحن من بعدهم على أن الله سبحانه له الفضل الحسن والثناء الجميل، في السراء والضراء، والنِّعمة والنقمة، وفي النصر والهزيمة، فله الحمد على كل حال، فالنصر له فرحة فإن تحقق، فله الحمد سبحانه عليه، كما أن الهزيمة لها ألم وحزن، فإن نزلت فله كذلك سبحانه الحمد، فربما يكون فيها التذكير والعِبرة، والاتِّعاظ بخطورة مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما حدث في هذه الغزوة، وقد قال الله تعالى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 216)، قال ابن حجر: " قال العلماء: وكان في قصة أُحُد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوا منه".
ومن خلال هذا الموقف النبوي كذلك يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء مطلوب في حال النصر والفتح، وفي ساعة الهزيمة والتضييق، والعافية والبلاء، وهو من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ويجعل القلوب متعلقة بخالقها سبحانه، فينزل عليها السكينة والرضا، والثبات والاطمئنان، وتتطلع النفوس إلى ما عند الله تعالى من النصر والثواب، فمن المعلوم أن النصر بيد الله عز وجل, يمنحه الله من يشاء، ويمنعه عمن يشاء ـ مثله مثل الرزق والأجل ـ، وحين يكتب الله تعالى للمسلمين النصر، فلن تستطيع قوى الأرض كلها الحيلولة دونه، وحين يُقَدِّر عليهم الهزيمة، فلن يستطيع أحد أن يحول بينهم وبينها، فالله عز وجل هو المعطي المانع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في دعائه: (اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطى لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مُقرِّب لما بعدت، ولا مُبْعِد لما قرَّبت)، وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160).
فائدة:
السيرة والأحاديث النبوية فيها ما يدل على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين والدعاء لهم، ومن أحاديث الدعاء عليهم ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف)، وقال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب وزلزلهم) رواه البخاري. وفي أعقاب غزوة أحد قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسُلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق).
وفي صحيح البخاري باب: "الدعاء للمشركين"، أورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قدم الطفيلبن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن دوساً قد عصت، وأبت، فادع الله عليها، فظن الناس أنه يدعو عليهم، فقال: اللهم اهد دوسا وأت بهم).
ومن وجوه الجمع التي تقال في هذا المقام: أن الدعاء على الكفار أو الدعاء لهم له أحوال، فحين يشتد عداؤهم ومحاربتهم للإسلام يُدْعَى عليهم بكف شرهم وهزيمتهم، وحين يُرْجَى إسلامهم يدعى لهم بالهداية.
قال ابن حجر: "كان صلى الله عليه وسلم تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم، والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم كما في قصة دوس".
وقال ابن بطال: "كان الرسول يحب دخول الناس فى الإسلام، فكان لا يَعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع في إجابتهم إلى الإسلام، بل كان يدعو لمَن كان يرجو منه الإنابة، ومَن لا يرجوه، ويَخشى ضره وشوكته: يدعو عليه، كما دعا عليهم بسنين كسني يوسف، ودعا على صناديد قريش لكثرة أذاهم وعداوتهم، فأجيبت دعوته فيهم، فقُتِلوا ببدر، كما أسلم كثير ممن دعا له بالهدى".
وقال العيني: " وقد ذكرنا أن دعاء النبي على حالتين: إحداهما: أنه يدعو لهم إذا أمِن غائلتهم، ورجا هدايتهم، والأخرى: أنه يدعو عليهم إذا اشتدت شوكتهم، وكثر أذاهم، ولم يأمن مِن شرهم على المسلمين".
غزوة أحد من الغزوات العظيمة في أحداثها ومواقفها، الغزيرة في عبرها ودروسها، الحافلة بالمواقف التربوية، ومن هذه المواقف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه بعدها، والذي به هدأت أنفس الصحابة رضوان الله عليهم، فقد علمهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه: أن الأمر لله من قبل ومن بعد، ولا رادّ لقضائه، والحمد لله على السراء والضراء، وعلى كل حال، والمتأمل في السيرة النبوية يستوقفه عِظَم شأن الدعاء واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم به في غزواته ودعوته وجهاده وكافة أموره، وقد قال الشافعي تحذيراً من الاستهانة بأمر الدعاء:
أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ وَمَا تَدْرِي بِما صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيلِ لا تُخْطِي وَلَكِنْ لها أمدٌ وللأمدِ اتقضاءُ
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من بدر إلى الحديبية