أتاح صلح الحديبية بين المسلمين وقريش فرصة عظيمة للمسلمين للتوجه نحو النشاط الدعوي ، وبداية مرحلة جديدة ، وهي توسيع رقعة الدعوة الإسلامية ، ونقل تعاليم ومباديء هذا الدين إلى أكبر شريحة من الناس عن طريق مخاطبة ملوكهم وأمرائهم .
وقد بدأت هذه المرحلة منذ أواخر السنة السادسة للهجرة ؛ حين انطلقت مواكب الرسل تحمل الخير ونور الهداية ، من خلال رسائل وخطابات مختومة بختم النبي صلى الله عليه وسلم ، وموجهة إلى الزعماء ، يدعوهم فيها إلى الإسلام ، لينالوا ملك الدنيا والآخرة ، ويسعدوا بالسعادة الحقيقية ، التي لا تكون إلا بالعبودية لله بحق ، والبعد عن عبادة غيره ، أو الإشراك به .
فتوجهت الكتب والرسائل إلى النجاشي ملك الحبشة ، وإلى المقوقس ملك مصر ، وإلى كسرى ملك فارس ، وإلى قيصر ملك الروم ، وإلى المنذر بن ساوى حاكم البحرين ، وإلى هوذة بن علي صاحب اليمامة ، وإلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق ، وإلى ملك عُمان جيفر بن الجلندي وصاحبه عبد بن الجلندي الأزدي .
واختار النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المهمّة عددا من خيرة أصحابه ، كان منهم عبدالله بن حذافة السهمي ، و عمرو بن أمية الضمري ، و دحية بن خليفة الكلبي ، و شجاع بن وهب ، و حاطب بن أبي بلتعة ، رضي الله عنهم أجمعين .
وحين نستعرض سير هذه الثلّة ندرك أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عشوائياً ، بل كان قائما على أسس ومواصفات ارتأى النبي صلى الله عليه وسلم توفّرها فيمن أراد أن يقوم بتلك المهمّة الحساسة ، فإنهم باديء ذي بدء دعاة توفّر لديهم العلم الشرعي ، ثم إنهم كانوا على قدر كبير من طلاقة اللسان وحسن البيان ، وقد ضمّوا إلى ذلك جمالا في المظهر يعطي انطباعا حسناً لمن يلقاهم – كما هو الحال عند دحية الكلبي رضي الله عنه - ، وأخلاقا رفيعة وحكمة وحسن تصرّف ، وسرعة بديهة يتطلبها الحوار مع الساسة والقادة .
وكانت تلك الخطابات تحمل في طيّاتها الرأفة ومحبة الخير والهداية لهم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على إسلامهم حرصه على بلوغهم الدعوة .
ونستطيع أن نلمس ذلك من خلال الرجوع إلى مضامين تلك الرسائل ، فلما كان " هرقل " عظيم الروم و" المقوقس " عظيم الأقباط ممن يدينان بالنصرانية المحرّفة التي تغلو في المسيح عيسى عليه السلام وترفعه إلى درجة الألوهية ، نرى التنصيص على عبودية الناس عموما والرسل خصوصاً لله رب العالمين ، وتأكيدا لذلك أورد في كلا الرسالتين قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } ( آل عمران : 64 ) ، وفي المقابل كان " كسرى " وقومه ممن يعبدون الشمس والنار ، فحرص النبي صلى الله عليه وسلم على تصحيح هذا المفهوم من خلال إيراده لحقيقة التوحيد في ثنايا رسالته .
ومع ذلك تبقى الهداية فضلاً من الله يؤتيه من يشاء ، ويمنعه عمن يشاء ، فآمن بعض الملوك ، واتبع الهدى ، فأنقذ نفسه وقومه من ظلمات الكفر ، وكان من هؤلاء المنذر بن ساوى ملك البحرين ، وجيْفر بن الجلندي وهبد بن الجلندي صاحبي عمان ، وبقي البعض على الكفر يتخبّط في ظلامه ، طمعاً في جاهٍ زائل ، أو حرصاً على دنيا فانية ، أو خوفاً من حاشيته وقومه : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } (القصص : 56) .
وبهذه الخطوة نقل النبي صلى الله عليه وسلم دعوته المباركة إلى ملوك الأرض ، وعرفهم بالدين الجديد الذي يكفل لأتباعه سعادة الدارين ، وفي هذا أعظم دلالة على عالمية الدعوة وشموليتها زمانا ومكانا .