واجه نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه أزمات وابتلاءات شديدة، ففي المرحلة المكية استخدمت قريش معهم أساليب متعددة لمحاربتهم، وذلك بالتهديد والوعيد، والإغراء والترغيب، والإيذاء والتعذيب، ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم كانوا صابرين لأمر ربهم، ثابتين على الحق، ماضين في طريق دينهم ودعوتهم.
وكذلك الحال في المرحلة المدنية، فقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لابتلاءات ومِحَنٍ شديدة، ففي شوال من السنة الثالثة للهجرة أصيبوا في أُحُدٍ بمصيبة كبيرة، وقُتِل منهم سبعون صحابيًّا منهم: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، وعبد الله بن عمرو بن حرام (والد جابر)، واليمان (والد حذيفة)، بل شُجّ رأس النبي صلى الله عليه وسلم وكُسِرت رَباعيته ودمي وجهه الشريف عليه الصلاة وأتم التشريف. ولم يمض على مصيبة أُحد شهران إلا وتهيأت بنو أسد للإغارة على المدينة المنورة.
ثم في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة قدِم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عضَل وقَارَة، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وطلبوا منه أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه، فغدروا بهم وقتلوهم جميعاً، في ما عُرِف في السيرة النبوية بمأساة الرجيع، والتي لنا مع أحداثها وقفة لما فيها من فوائد ودروس.
يروي لنا أبو هريرة رضي الله عنه تفاصيل هذه المؤامرة وأحداثها فيقول: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سَريَّةً عيناً (له على الأعداء حول المدينة)، وأمَّرَ عليهم عاصم بن ثابت، وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كان بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هُذَيْلٍ يقال لهم: بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فَدفد (مكان مرتفع)، وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموهم حتى قتلوا عاصماً في سبعةِ نفرٍ، وبقِيَ خُبَيْبُ بنُ عديٍّ وزيدُ بنُ الدَّثِنة ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق إن نزلوا إليهم، فلمَّا استمكنوا منهم حلُّوا أوتار قِسيِّهم (حبال نبالهم) فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبَىَ أن يصحبهم فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا، حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى (موس) من بعض بنات الحارث ليستَحدَّ (يحلق عانته) بها فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذاك مني وفي يديه الموسى، فقال : أتخشين أن أقتله؟ ما كنتُ لأفعل ذلك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف (عنقود) عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، ثم قال: اللهم احصهم عدداً، ثم قال:
ولستُ أُبَالِي حين أُقتل مسلماً على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصالِ شِلوٍ مُمزَّعِ
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر (النحل)، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء) رواه البخاري.
وفي سرية الرجيع ـ وغيرها من سرايا وغزوات وأحداث السيرة النبوية ـ برزت محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فحظُّ الصحابة من حبه كان أتم وأوفر من غيرهم، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بقدْره وعلو منزلته صلى الله عليه وسلم أعلم وأعرف، وقد ظهر هذا الحب في الحوار الذي دار بين أبي سفيان وزيد بن الدثنة لما أحضروه لقتله، إذ قال له أبو سفيان: "أنشدك الله يا زيد! أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنت في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي"، وقد نُقِل مثل ذلك عن خبيب رضي الله عنه، وفي هذا يقول القائل:
أسرت قريش مسلماً فمضى بلا وجلٍ إلى السياف
سألوه هل يرضيك أنك سالمٌ ولك النبي فِدىً من الإتلاف
فأجاب: كلا لا سلِمْتُ من الَرَدَى ويُصاب أنف محمَّدٍ برعاف
رغم شدة المصاب في مأساة الرجيع، ومع أنها حادثة من الحوادث المؤلمة في السيرة النبوية، إلا أن فيها من الفوائد الكثير التي ينبغي الاستفادة منها، وقد ذكر بعضها ابن حجر فقال: ".. للأسير أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكن من نفسه، ولو قتل في سبيل الله، أَنَفَة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن. قال الحسن البصري: لا بأس بذلك، وقال سفيان الثوري: أكره ذلك...وفيه الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، كما فعل خبيبب رضي الله عنه من تركه للطفل، والتلطف بمن أريد قتله، وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم، والصلاة عند القتل، وفيه إنشاد الشعر، وإنشاده عند القتل دلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه.. وفيه أن الله يبتلي عبده المؤمن بما شاء، كما سبق في علمه؛ ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه، وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حياً وميتاً، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل ..".
ومن هذه الفوائد
ـ الغدر يتميز ويُعرف به المشركون قديماً وحديثاً، وينبغي أن يترفع عنه أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولنا عبرة في خبيب رضي الله عنه، الذي لم يقابل الغدْرَ بالغدرِ، فلم يقتل الطفل الذي ذهب إِليه في بيت بنت الحارث وقد تمكن منه.
ـ جواز الدعاء على الكفار بالعموم، ويؤخذ ذلك من دعوة خبيب رضي الله عنه على المشركين عندما عزموا على قتله فقال: "اللهم أحصهم عدداً".
ـ النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب إلا ما يُطلعه الله عليه، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجن:26-27)، وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف:188)، وقد ظهر ذلك في ما حدث لأصحابه في مأساة يوم الرجيع، إذ لو عرف أن ذلك سيحدث لأصحابه ما أرسلهم.
ـ الحرص على التمسك بالسنة: وقد وضح ذلك من تعظيم خبيب رضي الله عنه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الفطرة، فرغم أن خبيباً رضي الله عنه كان أسيراً عند المشركين، ويعلم أنه سيقتل بين عشية أو ضحاها، ومع ذلك كان حريصاً على سُنة الفطرة في الاستحداد، وقد استعار الموسى لذلك.
ـ مشروعية صلاة ركعتين عند القتل، وهذا مأخوذ من صنيع خبيب رضي الله عنه، والذي أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
فائدة
قال ابن هشام في السيرة النبوية: "وكان مما نزل من القرآن في تلك السرية، كما حدثني مولى لآل زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال ابن عباس: لما أصيبت السرية التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع، قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله تعالى في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الخير بالذي أصابهم فقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (البقرة:204)".
وقال ابن كثير في قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:204-207) "قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك. وعن ابن عباس: أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قُتِلوا بالرجيع وعابوهم، فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خبيب وأصحابه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}، وقيل: بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم. وهذا قول قتادة، ومجاهد، والربيع ابن أنس، وغير واحد، وهو الصحيح".
لقد كانت مأساة الرجيع شديدة الألم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومع ذلك ففيها ـ مع قسوتها وآلامها ـ فوائد ودروس كثيرة ينبغي الوقوف معها للاستفادة منها في واقعنا وحياتنا.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من بدر إلى الحديبية